كان غسان تويني، كلما جمعه لقاء مع كتاب ومثقفين، يعرب عن أسفه، لكونه لم يصبح إلا صحافياً. ولعله لم يبالغ في تحسّره على ما فاته في حقل الادب والفكر والفلسفة (احد اختصاصاته الاولى)، هو الذي احتل أعلى مرتبة صحافية وخاض الحياة السياسية والديبلوماسية ببراعة ونجاح. كان يصر دوماً على الكشف عن وجهه الآخر وعن طموحاته وأحلامه الأخرى التي لم يتسنّ له ان يحققها، لا عجزاً أو تقصيراً، وإنما لانجرافه في عالم الحدث السياسي وصناعته صحافياً. والأحلام التي لم يحققها الصحافي الكبير و «المعلم» تخفي سرّه بل أسراره الكامنة في عمق شخصيته المميزة. لكن تحسّر تويني وتأسفه لا يخلوان من تواضع الكبار ووداعتهم أمام ما أنجزوا، ويعبّران خير تعبير عن رغبته في المزيد من العطاء وفي مواجهة الزمن والانتصار عليه. ويكفي ان نسترجع ما أنجزه تويني طوال أعوامه الطويلة في الصحافة والسياسة حتى تترسّخ صورته كرائد في الكتابة الصحافية الحديثة التي ارتقى بها الى مرتبة الابداع. كان يتحدّث بما يشبه الشغف عن ميوله الشعرية والأدبية والفلسفية التي طالما خبأها وكبتها لمصلحة الكتابة الصحافية. وكم اعترف بأسى ظاهر أن الصحافة سرقت منه همومه الأخرى التي كان يرغب في تحقيقها لو أُعطي هذا العمر من الكتابة. ولم يخفِ أمام أصدقائه من أهل الادب مثلاً أنه كان يرغب في كتابة الروايات والتأملات، حتى وإن بدأ الكتابة شاعراً بالفرنسية بل «مشروع شاعر» كما عبّر منح الصلح في مقال له عنه، وكما دلّت قصائده الأولى التي كتبها على مقاعد الصفوف الثانوية ونشرها لاحقاً في كتاب خاص للذكرى. وظلّ تويني مأخوذاً بالنزعة الشعرية في خضم تجربته السياسية وقد حلا له ان يتبنى ما قال فيه أحد أصدقائه أنه «شاعر سياسي» أكثر منه كاتباً سياسياً. وكان كلّما استعاد ماضيه «السرّي» الذي لم ينجزه، وحياته الفكرية ورؤيته الى التاريخ والعالم والدين وسواها، لا يتوانى عن إعلان تعبه من السياسة والمقالات. فهو لم يُعط كصحافي «ان يكتب كتاباً يفرح به ويحسّه عظيماً» كما قال في كتابه «سر المهنة». ومقالاته التي توالت نحو ستين عاماً حصدت الكثير من النجاح ولكنه في رأيه نجاح عابر وزائل. فالقارئ ينصف الصحافي ساعة قراءته المقال، أما الكتابة التي تدوم وتبقى فهي على عداء مع الكتابة الصحافية المرتبطة بالحدث، ولو عمدت في أحيان الى معاودة صوغه او الى صنعه، كما يرتأي تويني. لم يكن الصحافي الكبير يغالي في التعبير عن «القهر» الذي ينتابه وعن الندم الذي يعتريه حين ينظر الى أعوامه التي مضت سراعاً من دون ان ينجز الكتاب الذي طمح إليه طويلاً وفيه يقدم خلاصة تأملاته الفكرية البعيدة عن السياسة والصحافة وهمومهما. وقد حاول تويني في كتابه الفريد «سر المهنة» ان يختصر وجهه الآخر، وجه المفكر والأديب والمتأمل والمؤمن، وأن يورد بعض أفكاره ومبادئه ونظراته، فإذا به يتحدث حديث العارف والمثقف عن التاريخ والفلسفة، عن الله والعدالة والموت والإيمان والمنطق، وعن أفلاطون وأرسطو وهيغل، وعن الجمال والحرية... ونمّ كلامه فعلاً عن وعي ثقافي شامل ونادر وعن معرفة فلسفية ودينية عميقة ومتبصرة. وكم تحسّر تويني على «النزعة الجمالية» التي وسمت المقالة التي كان يتفنن في كتابتها سابقاً الكتّاب الكبار في الصحافة. فالإعلام المعاصر والحديث سرق من الصحافيين متعة الكتابة وجماليّتها. لم يكن يختلف غسان تويني الكاتب عن غسان تويني السياسي والديبلوماسي، ولا كان تويني المناضل الحزبي الذي حوكم وسجن مراراً يختلف عن النائب والوزير، كما لم يختلف تويني المتمرد والثائر والمعارض عن الصحافي الموالي وصديق الرؤساء وصانع سياساتهم في أحيان. غسان تويني شخصية واحدة، متعددة الشخصيات، بل شخص في أشخاص وأشخاص في شخص. ولم تكن تناقضاته الظاهرة إلا دليلاً على ليبراليّته وبراغماتيته وقدرته على الانفتاح والتطور. فهو لم يعرف الجمود ولا التحجّر، ثار على القديم ولكن وفاءً له، وتمرّد على النظام من أجل إصلاحه، آمن بالحرية والديموقراطية ولكن بعيداً عن الغوغائية والمجانية. ولعل أجمل وصف يمكن ان توصف به شخصية غسان تويني ما وصفها به أنسي الحاج مرة: «شخصية وحش صحافي تنطوي على حاكم زائد معارضاً وعلى وجدان شعبي يحترق بقلقه ويستفيء بطموح لا يهدأ... شخصية إغريقية بفكر أوروبي وبراغماتية أميركية ولغة عربية... شخصية رجل صنع جريدة يقرأها الحكام ويتساءلون ما الذي فيها يضاهيهم ويفوقهم سلطة». أصبح غسان تويني طوال مساره بمثابة الأسطورة الصحافية والسياسية. وساهمت مواقفه ومقالاته في صنع أسطورته الشخصية النادرة. ولعل القدر تواطأ في ترسيخ هذه الأسطورة تراجيدياً، فدفع هذا الإنسان الكبير الى دفن زوجته وابنته وإبنيه حياً. وكان الألم السحيق الذي خامره في أعوامه الأخيرة حافزاً له على مواجهة الحياة بصبر القديسين والأولياء. لم يُخفِ تويني تأثره بثلاث شخصيات وسمت فكره وحياته الصحافية والسياسية: والده جبران، انطون سعادة زعيمه في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وشارل مالك استاذه في الفلسفة والفكر اللبناني. وكما تمرّد على والده تمرّد الأبناء على الآباء، تمرّد كذلك على زعيمه وعلى أستاذه ولكن تمرّد المريدين على أوليائهم. لكن تويني في تمرّده على الثلاثة لم ينكر أثرهم ولا فضلهم عليه. كان تويني يتحدث كما يكتب، بإلفة وبراعة، منطلقاً من إيمانه بالجدلية التي تؤكد مبدأ الحوار. وكم كانت اطلالاته التلفزيونية التي كان اللبنانيون ينتظرونها، شيقة ومفيدة، وكم كان سديد الرأي، جريئاً وبليغاً. إنها ثقافته الفلسفية الإغريقية. ترى، ألم ينادِ بالسقراطية كمثال للصحافة قائلاً إن على الصحافة ان تكون «صناعة للحدث» كما كانت السقراطية «صناعة للحقيقة». وفي كلام واضح دعا الصحافي - المفكر الى استخلاص الحقيقة من عقول المتحاورين، فهي موجودة لديهم بالطبيعة ولا تستخلص إلا عبر التسلسل المنطقي في الحوار والنقاش «وكلاهما، كما يقول، غير المناظرة بل نقيضها». ولتويني في الصحافة كلام كثير وشهادات وعبر وأمثلة ينبغي ان تعمّم ليأخذ بها أهل الصحافة عموماً والصحافيون الجدد خصوصاً. وقد وعى كل الوعي أن صحافة المستقبل هي صحافة المعلومات ولكن في رأيه يجب «التسيّد» على المعلومات. ليت غسان تويني حقق أحلام الكاتب الذي فيه، أحلامنا نحن قراءه الذين سنفقتد مقالاته ومواقفه الحرة دوماً.