«واد في القلبٍ» رواية للكاتبة الإماراتية لطيفة الحاج (الدار العربية للعلوم - ناشرون) تتخلّلها عبارات وصفيّة تجسّد المعنى وتجعل القارئ يعيش الحالة المعبر عنها؛ كما حصل حين وصفت وسائل الدفء كالغطاء الثقيل في ليالي الشتاء الداكنة، أو الصور الجميلة التي تتسلّل إلى قلب القارئ «عاد لي عقلي وذهب جنوني للنوم بعين مغمضة وأخرى مفتوحة». رواية خفيفة الظل، بطلتها مها حمدان، كاتبة «عمود» في صحيفة «الوجد»، ولعلها قد تكون قريبة من شخصيّة الروائية الملتزمة، الخجولة التي تكره «الروايات الجريئة» وتحرص في قصصها على كتابة «الأدب النظيف الخالي من التلميحات والإيحاءات»، وهذا ما لمسناه في «وادٍ في القلب». فالبطلة هي امرأة تقليديّة، ترفض أن تواعد رجلاً، بل تتواصل معه من خلال صديقة لها... خجولة واقعيّة، حزينة وكئيبة. يكاد الصمت أن يكون هو السمة الغالبة، ولكثرة ما قرأنا كلمة «الصمت» بتنا نسمعه! وتتساءل هذه البطلة الحزينة، الرمادية المزاج والمشاعر، ليلة رأس السنة عن مفاجآت العام الجديد. يمكننا أن نعتبر الرواية من النمط الكلاسيكي الذي يعتمد راوياً واحداً يكون هو البطل، يعيش أحداثاً قليلة مرتبطة بموضوع واحد، يمتد من بدايتها إلى النهاية. وكانت الراوية تتنقّل بين السرد والحوار – على قلّته – بطريقة سلسة وناعمة. كما أنّ الزمن كان تعاقبياً في القسم الأغلب من الرواية، ولم يتقطّع إلا في مواضع معينة ونادرة... إلا أنّها تمتاز من ناحية الشكل، بتقسيم يشبه حلقات صغيرة، يريح النفس ويمتعها، فيخيّل إلى القارئ وكأنه يتناول مادة خفيفة لن ترهق عقله. ونلحظ بساطة على صعيد الأسلوب، وإجادة في وصف الحالة الخارجيّة لتتناسب وحالة الإنسان الداخليّة ونفسيته. وبالتحديد رمزيّة الألوان، سواء الملابس أو الطبيعة أو الأثاث... فالراوية – البطلة تعيش الوحدة والكآبة والصمت فتشعر بأنّ أيّامها رماديّة، وتختار ملابسها لتتناسب ومزاجها هذا، كالأسود والرمادي والبني... في حين أنها عندما عاشت ما يشبه قصة حب بدت «مشرقة» على عكس الجو الماطر والسماء الملبّدة بالغيوم. أما مكتب منى (صديقة البطلة) المليء بالألعاب المحشوة الملونة، فيعكس شخصيتها الطفولية... إضافة إلى بروز ظاهرة الترادف والتكثيف في استخدام الأفعال والصفات لتصوير حالة معينة، ما ساعد على تأكيد الفكرة «كانت مصدومة، حزينة، محبطة، خائفة ومشفقة علي...» أو «البكاء قهراً، غضباً، حزناً، عجزاً، تعاطفاً...» وغيرها من النماذج المشابهة الكثيرة، ما أثرى النص وأضفى الكثير من الحقيقيّة ومن واقعيّة الحالة. بين الحب والوهم وإذا ما ألقينا نظرة على مجتمع البطلة، نلحظ، من ناحية، تحوّلاً في شخصيتها، حيث أصبحت تختار صديقات أصغر منها في رغبة منها لتكون هي الأكبر والأجدر بالاحترام، بعد أن ملّت سماع عبارة «أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة». واكتفت بصديقتين: واحدة تفهمها «غالية» وأخرى تمتعها «منى». ناهيك عن التأثر بالمسلسلات التركية العاطفيّة، والسعي إلى التعارف من طريق الإنترنت. ومن ناحية أخرى، قد يكون لهذا المجتمع الذي تعيشه البطلة، تأثير كبير في تأزّم حالتها على أكثر من صعيد. فالوالدان لم يعرفا شيئاً عن «رابح» (حبيبها الأخير) ولم يتساءلا عن حال ابنتهما الذي تغيّر فجأة. كما أنها لم تتمكّن من اللجوء إلى أخيها وسؤاله عن الرجال «كيف يفكّرون ولماذا في بعض الأحيان يكونون جبناء، أنانيين وانهزاميين». وقد تكون هذه هي حال غالبية النساء العربيات، بطبيعة الحال. كان الحدث الأبرز إن لم يكن الوحيد، هو محاولة تدبير عريس ملائم، وما ينتج عن ذلك من ظهور نماذج مختلفة. كالمقتدر مادياً لكنه بخيل بطبعه، أو ذاك الذي يصغر العروس بسنوات... إلى أن وقع الخيار على عريس بمواصفات جيدة، وأخلاق عالية، والدليل أنه يصلي الفجر كل يوم، وكأنّ «الصلاة تضمن رفعة أخلاق الإنسان وهي التي تعصمه عن كل خطأ!»، في إشارة من الروائية إلى أنّ الأخلاق هي أشد ارتباطاً بطبيعة الإنسان وشخصيّته، أكثر منها بالصلاة، وهذا ما أثبتته شخصية «رابح» في الرواية. وبدأت البطلة، بفعل هذا الحب، تشعر بحالة غبطة، انعكست على عباراتها ومفرداتها التي جسّدت موجة التفاؤل هذه. فصارت تغض البصر عن أمور تزعجها، وتكتب حكايات عمودها الأسبوعي بسلاسة، وباتت تختتم قصصها بنهايات سعيدة. وأخذت تهيّئ نفسها للقاء «رابح» (العريس)، ودارت التساؤلات في رأسها، أدخلت القارئ معها في تفاصيل الأحداث: كيف يتحدّث؟ كيف يفكّر؟ كيف يقضي وقته؟ يعيش القارئ، ولا شك، مع الراوية فترة ترقّب ممتعة بانتظار لقاء «رابح»، ويتحمّس للقائهما الأول، كما قد يتعاطف مع البطلة وهي في حالة ارتباك وإحراج وصمت! مجدداً الصمت! خاب ظنها بنفسها، وخاب ظنّ العريس بها، من دون أن توضح الراوية السبب. هو الذي كان لا يتحدّث إلا عنها ويسأل باستمرار كيف تبدو! لكنّها بدت «خجولة، بسيطة، وبلهاء»، فاعتذر وعدل عن فكرة الزواج متحجّجاً بوضعه المالي وظرفه العائلي وكأنها أمور طرأت عليه فجأة! إذاً، لم يلتقيا سوى مرّة واحدة. لكن، كان لهذه «المرة» عميق الأثر في نفس البطلة، فاعتبرت أنها تعرّضت لخسائر كبيرة! وباتت تزور عيادات القلب وهي في عمر الثلاثين! وعلى رغم ذلك، لا تزال هناك، في مكان عميق في قلبها، بذرة تتمسّك بالحياة رافضة أن تموت، ويتحوّل فكر الإنسان وعقله إلى شخص ما أو مكان ما، قد لا يرغبه هذا الإنسان نفسه! الوادي السحيق سقط «رابح» في الوادي السحيق من قلبها، وهو المكان الذي يستوطنه الأشخاص، بعد سقوطهم من قلب البطلة. وقد سبقه إلى هناك: أمير، عمر، محمود ناصر، جابر، صلاح، وكان آخرهم رابح. إلا أن «أحمد ماجد» مدير شركة الأنوار للدعاية والإعلان، كان العريس الملائم، على أكثر من صعيد: أخلاقياً، اجتماعياً، عاطفياً، وبالطبع مادياً. وقد أجادت الكاتبة ربط بداية الرواية بنهايتها، حيث بدأت القصة في آخر يوم من السنة، وما يحمله هذا اليوم من أمنيات وأحلام بانتظار أن تتحقق، وأنهتها بعبارة على لسان الراوية «دعوت الله أن أبقى له (الزوج) أمنية جميلة لا يندم على تحقّقها يوما». وتكون بذلك قد أرجعتنا البطلة إلى زمن الأسطورة: الفارس المغوار الذي سيخطف حبيبته على حصانه الأبيض، سيخطف قلبها ويسكنها قصره... وهنا، قد يتساءل القارئ: إلى متى سيظل حلم الفتاة العربية يتمحور حول هذا الفارس! إلى أن يأتي مَن ينقذه من ترداد هذه الأفكار! ويمكن القول إنه باستطاعة هذا الأسلوب السلس الذي تتمتع به الرواية أن يخرج من الدائرة الضيّقة المرتبطة بمجرّد البحث عن عريس!