تأتي الانتخابات الرئاسية المصرية بعد أسبوعين في الذكرى السنوية الحادية عشرة لوفاة جدي، على أن مرور السنوات لا يزيده إلا قرباً، فسيرته لا تخُص شخصاً قدر ما تختصرُ عصراً تبدو أقصى الأماني اليوم العودة الى بعضه. ولد عبد الجليل سعد القرنشاوي لفلاحٍ أمي بقريةٍ على أطراف مدينة كفر الدوار بشمال مصر في التاسع والعشرين من شباط (فبراير) عام 1908، وككثيرٍ من أبناء الفقراء، كان الأزهر سبيله الأمثل للتعليم، قيمةً دينيةً ومجانيةً. تيتم صغيراً فانقلب بين عشيةٍ وضحاها رأس عائلته وهو أكبر إخوته، فأصر عمه الأكبر على إخراجه من التعليم إلى مهنةٍ يتكسبُ منها. حجة العم كانت أن ابن أخيه يكاد يكون كفيفاً، فقد كانت احدى عيني الفتى معطلةً تماماً، فما كان، وفق رواية جدي، إلا أن استدعاه شيخ المعهد الأزهري بالإسكندرية، حيث كان طالباً، إلى مكتبه وأسند بيده جريدةً على الحائط المقابل للباب وطلب من تلميذه المكلوم لحظةَ دخوله أن يقرأ. وفق رواية جدي، لم تكن تلك مسافة يستطيع منها القراءةَ عادةً، لكن العنوان تجلّى أمامه: «كفى يا سعد ما قد حصل.» بدعمٍ من أخواله، واصل تعليمه حتى نال قمة التعليم الأزهري آنذاك، شهادة «العالمية من درجة أستاذ» التي حصل عليها ممهورةً من القصر الملكي (كما كان العرفُ آنذاك) عام 1946 ميلادية وتسلم بعدها منصبه أستاذاً بكلية الشريعة والقانون بالأزهر، حيث عمل حتى وفاته عام 2001. لم يستطع جدي تعليم كل إخوته، اثنان فقط تبعاه إلى الأزهر وانتهى كلاهما مُدرساً للغة العربية. لكن جدي أصر ان يتخصص كلٌّ من الأخوين في مذهب فقهي مختلف من المذاهب السنية الأربعة، فأرسل واحداً حنفياً والآخر شافعياً. لكن تعددية الرجل لم يحدها تنوع مذاهب الفقه الإسلامي الذي يطبع التعليم الأزهري إلى اليوم. اتى القاهرة طالباً في أوج تجربة مصر الليبرالية (1923-1952). روى لي كيف كان يجولُ بين مشاهير الخطباء من الأحزاب المختلفة، وأن خطيبه المفضل كان الدكتور أحمد لطفي السيد زعيم حزب الأحرار الدستوريين الليبرالي. ذكر لي أكثر من مرة تظاهرات طلبة الأزهر الحاشدة ضد البريطانيين أو تأييداً للوفد وزعيمه النحّاس باشا، وكيف أن «المجاورين» كما كان سكان المناطق المحيطة بالأزهر يسمون طلبته، حاصروا مرة شيخ الأزهر نفسه لأنهم اتهموه بالتحالف مع أعداء الوفد. ما أخذنا جميعاً على حين غرة يوم الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2011 كان مشهداً مُعتاداً في القاهرة التي أتاها جدي. ومع الانفتاح السياسي الذي عاشه وعاشته مصر في هذه الحقبة، عاش الرجل مرحلةً تنوع فيها المشهد الديني والثقافي أيضاً. عجت مدننا الكبرى آنذاك بمئات الآلاف من جنسيات مختلفة جلها غير مسلم. أبناء جيلي حُرموا ذلك العصر الذي تعايش فيه المسلم والمسيحي واليهودي وشارك ساسة بارزون من الفئات الثلاث في المشهد السياسي، العصر نفسه الذي شهدت فيه الصحف والكتب المنشورة أفكاراً متصارعة استدعى بعضها ردود أفعال حادة من الأزهر وغير الأزهر، لكن هذه الردود، على عكس ما شهدنا في العقود الأخيرة، لم تصل إلى هدر الدم أو التهديد بالقتل، ناهيك بارتكابه. لذلك ربما، لم يمنعني يوماً من قراءة كتاب رغم هوسي المبكر بالفلسفة، وقد كنت اقضي معه شهوراً في قريتنا الأم كل صيف. تجربة العصر الليبرالي التي عاشها لم تعن فقط انفتاحاً فكرياً قلما وجدته في من أنتجهم التعليم الحكومي بعد انقلاب تموز (يوليو) 52 العسكري، وإنما أنتجت أيضاً ثقافة تعايش تندر اليوم. لم يرث جدي إلا القليل من الأرض الزارعية (أقل من فدانين) ولا امتلك أكثر مما يحتاجه لحياةٍ كريمة. من أدار كل أوراق ممتلكاته القليلة بقريتنا الأم كان رجلاً قبطياً، «عم فؤاد» رحمه الله. أما جار جدي وصديق عمره، فكان أيضاً رجلاً قبطياً، ومنذ وفاة «الأستاذ فوزي» في الثمانينات حتى وفاة جدي في مطلع الألفية، لم يكن يذكر اسم صديقه المسيحي إلا مقروناً بالدعاء له بالرحمة، وكنا كلما بدأ صوم من صيامات الأقباط الطويلة، انهمرت علينا أطباق الكشري والفلافل والفول وغيرها مما لم ليس فيه «روح» على حد التعبير القبطي (أي مما لا يداخله أي منتج حيواني) فشاركنا جيراننا صومهم مثلما كنا نشركهم طعامنا في غير صومهم. كان ذلك في زمن ولّى. مطلع التسعينات، خلال دراستي في الجامعة الأميركية، أحد بيوت النخبة المصرية بامتياز، نهاني صديقٌ مسلم (تخرج بالمناسبة من مدرسة رهبان فرنسية مرموقة) عن الترحم على مسيحي. بُعيد وفاة جدي الأزهري تعليماً وحياةً، وفي قريتنا نفسها التي ولد فيها، لامني ابن أخت له على شراء فاكهتي من بائع قبطي أتعامل معه دوماً. ولما رددت بالآيةٍ الكريمة «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تَبَرُّوهم وتُقْسِطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» (الممتحنة: 8)، سكت لبرهة ثم قال: «بس برضه نصراني...». في القرية نفسها بنت أخٍ لجدي (كانت عضواً ناشطاً بالحزب الوطني الحاكم سابقاً) تحدثت امامي مرة عن تهربها من الأكل في بيت قبطي لئلا تأكل «أكل نصارى». كم قرناً تراجعنا في عقود؟ محبة غير المسلم رافقها تعامل مع الشريعة قلَّ أن نسمعه اليوم. موقف بعينه أتذكره دوماً: طُلب مني أن أستفتيه في شأن فتاةٍ على وشك الزواج ولم تكن عذراء، وهو ما لم يعلمه خطيبها. لم تر الفتاة نفسها فقط كمرتكبة لكبيرة تستحق العقاب، لكن ككاذبة على زوجها المقبل وعلى من سيعقد القران، إذ إن الصيغة المعتادة التي يرددها وليّ العروس تنص أنها «بِكر». ما ارتآه جدي بشرط توبة هذه الفتاة النصوح (والتي قال ان قلقها هذا مؤشرٌ عليه) هو ألا تخبر أحداً. سألته: ألا يُعدُّ هذا كذباً، فرد بأنه من غير المرجح أن تُسأل سؤالاً مباشراً، وإن حدث -على محدودية هذا الاحتمال– فلها أن تنكر. ما أذكره من كلامه (والصياغة لي) أن الإصرار على تحمل الفتاة وزر ما فعلت، بما في ذلك التصريح به، لا بد أن يمنع هذه الزيجة إن لم يغلق باب الزواج عموماً، ومن ثم بدلاً من فتح باب الحلال أمامها يدفعها إلى الحرام. المنطق هنا (والصياغة أيضاً لي) أن الشريعةَ سعيٌ إلى الحلال وتسهيلٌ له قبل ان تكون عقاباً على الحرام. لست فقيهاً، وأظن أن لآخرين آراء مخالفة، لكن كيف لا أعجب بفكرٍ يقدمُ الغرض على العقوبة، ويلتزم روح الآية الكريمة «فبما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانْفَضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم»... (آل عمران: 159). تُرى كم ممن يدْعون اليوم إلى «تطبيق شرع الله» ينظرون إلى الأمور كما نظر هذا الشيخ؟ كان يقاطع ما يراه مكاناً لما قد يرفض (لم يحضر حفل عُرسٍ يوماً، على ما أعلم)، قلما سمعته ينتقد السلوك أو الملبس أو المعتقد الشخصي للآخرين، سواء كانوا مسلمين أم لا، المرات التي كسرت هذه القاعدة محدودة للغاية. واحدة كانت حين أفرطت جدتي في الحديث عن كرامات شيخ صوفي ما، فنهاها، ومرة أخرى كانت تعليقاً حاداً، في حضور منقبة، على النقاب الذي ظهر في قريتنا الأم في التسعينات، هذا علماً أنه أيد انتشار الحجاب (وإن لم أسمعه أبداً ينتقد غير محجبة) وكان من ثلاثةٍ من كبار مشايخ الأزهر الذين أصدروا فتوىً شهيرة تحرم فوائد المصارف بعد أن أصدر المفتي آنذاك (شيخ الأزهر لاحقاً سيد طنطاوي) فتوى تحللها. ترى ماذا كان سيقول في ادمان بعض ممثلي ما يُعرف اليوم «بالإسلام السياسي» على المناورة إلى حد الكذب؟ أو في مناداتهم بتطبيق «شرع الله»؟ السؤال الأول مردود عليه، اما الثاني فلا أظنه، وهو الأزهري القح أستاذ الشريعة، كان سيرفض، لكن لا أظنه أيضاً كان سيقبل الدعوة على علاتها دون تمعن في تعقيدات التطبيق وتباين القراءات، لا كما يفعل من يروج للفكرة اليوم، سواء عن فطرةٍ بسيطة ام تجارة واعية. ذكرى الرجل لا تمثل فقط انحسار دور الأزهر، بل تمثل معها مأساة عقود من الحكم العسكري أنتجت ثقافة لاتعددية إقصائية تكاد تسلمنا اليوم إلى ما عاداه هذا الحكم: مشروع سياسي ديني-شمولي. عصر جدي علّمه احترام الخيار الشخصي كأساسٍ لالتزام العقيدة. أين نحن من ذلك اليوم؟ * كاتب مصري