يبقى مفعول قرار الدول الغربية والآسيوية التي تدور في فلكها، طرد السفراء والديبلوماسيين السوريين احتجاجاً على مجزرة الحولة البشعة وعمليات القتل المبرمج الذي يمارسه النظام السوري والميليشيات التابعة له، محدوداً وينحصر بالجانب المعنوي ويعبّر عن حال من الغضب الدولي إزاء ارتكابات النظام، لا أكثر ولا أقل. وهو لن يشكل حالة ضاغطة فاعلة على النظام، الذي لن يغيّر من سلوكه، أو يعدّل في خطته المعروفة سلفاً، منذ بداية الأزمة السورية، والقائمة على هدفي حد أقصى وحد أدنى: الأول هو سحق انتفاضة الشعب السوري بالقوة مهما كلّف الأمر. لكن هذا الهدف يزداد صعوبة مع الإصرار المنقطع النظير عند فئات الشعب السوري على مواصلة تحركها لإسقاط النظام على رغم بشاعة البطش الذي يستخدم ضد هذا التحرك. والثاني هو تطهير بعض المناطق مقابل سيطرة الثوار على مناطق أخرى. وهذا التطهير يتركز على منطقة حمص، «مدينة الشمس» كما كانت تسمى في العصور القديمة ومنطقة تعايش الأديان في حقبات التاريخ البعيد، ويشمل محيطها، لأن هدف النظام جعلها ممراً آمناً له ولمناصريه بين الساحل السوري ودمشق، وبين هذا الساحل والحدود اللبنانية، على تخوم البقاع الشمالي. ويستشرس النظام ومؤيدوه في تحقيق هدف الحد الأدنى هذا ويصرّون على إحداث تغيير ديموغرافي في هذه المنطقة، عبر المجازر التي اعتمدت سياسة الإبادة، والتهجير الذي بلغ حداً عالياً قدرت أرقامه (من هذه المنطقة وحدها) بما يقارب انتقال زهاء 800 الى 900 ألف مواطن الى مناطق سورية أخرى، أو الى خارج سورية. ولا حرج لدى النظام أن يرافق ذلك تدمير أبنية قرى وأحياء بكاملها وإزالتها عن الخريطة كما هو حاصل في أحياء داخل حمص أو في بعض قرى المحافظة. وقد يكون طرد الدول الغربية والدول الحليفة لها السفراء بديلاً من العجز عن صوغ موقف عملي واضح يضغط من أجل وقف الحل الأمني في سورية. فالتدخل العسكري الدولي شبه مستحيل، وموسكو تفتعل البطولات حين تقول إنها والصين تقفان ضده، لأن الدول الغربية نفسها ليست في وارد اللجوء إليه، على الأقل في القريب المنظور. وعواصم الغرب تكتفي بالمراهنة على أن تفعل العقوبات الاقتصادية والمالية فعلها في خلخلة أوضاع النظام السوري في الخريف المقبل، ما يعني أن لا رادع لاستمرار القتل والمجازر حتى ذلك التوقيت. ومقابل «الممر الآمن» الذي يسعى النظام الى ضمانه عبر تشديد حملاته على حمص ومحيطها، يضمن استمرار الخلاف الدولي على خطة واضحة في المجال السياسي (لا العسكري) يمكن أن تضغط على النظام لوقف القتل، طريقاً آمناً لبقائه يسمح له بالتصرف وفق ما يفعل على الأرض. فتكرار موسكو إعلان رفضها لأي تدخل عسكري غير مطروح في أي محفل جدي، ليس إلا غطاء لرفضها حلاً آخر، سياسياً، لمعالجة الأزمة، هو اعتماد النموذج اليمني الذي يبدو الحد الأقصى الجدي الذي يطرحه الغرب. فالقيادة الروسية، على رغم بعض التلميحات الى أنها لا تدعم الرئيس السوري والحكومة السورية، ترفض أي حل بتنحي الأسد ولو على الطريقة اليمنية لأنها مصرّة على التمسك بورقة بقائه، لأسباب تتعلق بما هو أبعد من سورية في علاقتها مع الولاياتالمتحدة الأميركية. تواصل موسكو وبكين الدعوة الى الحوار بين السوريين وتحذر الأولى ليل نهار من الحرب الأهلية (ومعهما بعض الدول الغربية وأميركا)، في وقت يعلن نائب المبعوث الدولي العربي المشترك جان ماري غيهنو أن الحوار مستحيل بين المعارضة والنظام، بينما النقطة الأولى في نقاط كوفي أنان الست هي «العمل في إطار عملية سياسية... والالتزام بتعيين محاور تخوّل له كل الصلاحيات...». ما يعني أن جهاز أنان نفسه ينعى مهمته. أما الحرب الأهلية، فإن الإكثار من الإعراب عن المخاوف من حصولها هو الخبث بعينه، فهذه الحرب واقعة منذ أشهر، وما يحصل من مجازر تارة في مناطق سنّية، وأخرى في مناطق علوية ومن تهجير لمناطق مسيحية، فضلاً عن عمليات خطف متبادلة، هل يمكن وصفه بغير الحرب الأهلية؟ ولماذا تتكاثر المخاوف والتحذيرات من أن ينزلق لبنان الى حرب أهلية هو الآخر، تحت شعار وجوب تفادي تهديد الاستقرار اللبناني نتيجة تداعيات الأزمة السورية، لو أن هذه الأزمة نفسها لم تدخل مرحلة الحرب الأهلية.