عالقون، جائعون، مشرّدون. هربوا خوفاً من الفوضى والقتل وحروب العصابات المسلحة المسمّاة تارة «مجموعات» وتارة «ثوار» ودائماً «جماعات» تطالب إما بالشريعة، أو بالجهاد، أو بتطبيق كلمة الله، أو بإعلاء الإسلام، فوجدوا أنفسهم واقعين بين شقَّي «رأس جدير» حيث الحدود التونسية – الليبية الملتهبة والداخل الليبي حيث القتل وإطلاق النار. تناول أوضاع المصريين الهاربين من جحيم ليبيا إلى فوضى الحدود التونسية حيث محاولتهم دخول تونس من دون أوراق رسمية يصلح لصفحات «السياسة» حيث الشرق الأوسط الجديد والربيع العربي المجيد. كما يناسب صفحات «الاقتصاد» حيث أعباء تلك العودة الجماعية على اقتصاد مصري يجهد من أجل الوقوف على قدميه مجدداً. ويلائم صفحات «المجتمع» حيث حكايات العائدين الإنسانية – أو بالأحرى اللاإنسانية. ويمكن دمجه في صفحات «الطب والعلوم» حيث الآثار النفسية للعيش في الجحيم الليبي ومن ثم العواقب العصبية للتشرد على الحدود الليبية. لكن الصفحات الأصلح للتناول هي صفحات الشباب. فعلى رغم الوجوه القلقة من عناء قطع ليبيا عرضاً، والقلوب المنهكة لفرط الفزع وانتظار الموت بين لحظة وأخرى، والعقول المجهدة من كثرة التفكير في وسيلة العودة المثلى إلى مصر، يظل ملف الهاربين من جحيم ليبيا إلى رمضاء الحدود، ومنها - إن كتبت لهم النجاة - إلى الداخل المصري الصعب ملفاً شبابياً بامتياز. الغالبية المطلقة من حكايات العائدين والعالقين والعاجزين عن العودة داخل ليبيا تكاد تكون متطابقة مع اختلاف الأسماء ومسقط الرأس. فمن أسيوط جنوباً إلى كفر الشيخ شمالاً، ومن السويس شرقاً إلى الوادي الجديد غرباً، ومن مدن على الخريطة إلى نجوع لا يعرفها سوى أهلها، آلاف من الشبان المصريين الذين لم يمتثلوا لتحذيرات وزارة الخارجية بعدم السفر إلى ليبيا إلا للضرورة القصوى. لكنهم يرون أنهم أذعنوا للتعليمات وامتثلوا للتحذيرات، ولم يسافروا إلا للضرورة القصوى، ضرورة البحث عن فرصة عمل وإن كان هامشياً، ومصدر رزق ولو كلفهم حياتهم. إلا أن المشكلة تكمن في «قيمة» الشباب الذي قرر المغامرة بقبول عرض عمل «غير رسمي» أو عرض رحلة البحث عن عمل «غير رسمية» في ليبيا حيث قصص الأولين عن الرزق السريع للعمال والحرفيين البسطاء الذين يعملون في أعمال هامشية أو غير رسمية. أولئك وأقرانهم يشكلون عصب الاقتصاد غير الرسمي في مصر، وهو الاقتصاد الهش الذي يمنح العاملين فيه فرصة حياة اليوم لكنها غير مضمونة غداً. وغداً يبدأ اليوم، لكن ملامح اليوم مطموسة. فأعداد المصريين في ليبيا، وجانب كبير منهم من الشباب، غير محددة رسمياً. الإحصاءات الرسمية تشير إلى نحو مليون مصري يعملون هناك، لكن العدد الحقيقي أضعاف ذلك. سائقون، مساعدو سائقين، عمال بناء، سباكون، طهاة، نادلون وغيرهم من فئة العمال الشباب البسطاء ظنوا حتى أيام قليلة مضت أن طوق نجاتهم وأسرهم من دائرة الفقر محكمة الإغلاق تكمن في فرصة سفر إلى ليبيا، سواء بعقد عمل رسمي، أو من طريق وسيط يطلب عمولة باهظة. منهم من فقد عمله في سنوات الثورة الثلاث الماضية، ومنهم من لم يكن له عمل من الأصل بغض النظر عن الثورة، ومنهم من خرج إلى سوق عمل متخم أخيراً، ومنهم من أثقلته الديون أو أعيته الأحوال المتردية فلجأ إلى ليبيا باحثاً عن فرصة مهما كلفته. كلفة العودة كلفة العائدين من الشباب المصري – وغالبيتهم في منتصف العشرينات من العمر - باهظة وطويلة المدى. فأولئك خرجوا من مصر إما لأن أبواب الرزق أغلقت في وجوههم، أو لأن أبواب الرزق التي تُرِكت مفتوحة أو نصف مفتوحة لم تلق إعجابهم، أو لأن حلم الثراء – أي الصعود من أسفل خط الفقر إلى أعلاه - تمكن منهم. ومن يعود من أولئك إلى مصر يأتي حاملاً معه، إضافة إلى فرص العمل المتقلصة، خيبة ضياع ما تقاضاه من راتب أثناء إقامته في ليبيا، وتبدد قيمة مصوغات الأم أو «تحويشة عمر» الأب المدفوعة لتيسير فرصة السفر، وكم غير معلوم من الجرح النفسي الناجم عما تعرضوا له من مواجهة الموت مرات في ليبيا، ومرات على الحدود. حدود التخطيط الرسمي لما سيواجهه أولئك لدى العودة غير واضحة المعالم، باستثناء مجموعة من البيانات الرسمية والتصريحات الوزارية المؤكدة أن مصر أولى بأولادها، وإن الجهود ستبذل والخطوات ستتخذ لإيجاد سبل الحياة الكريمة وفرص العمل المناسبة لهم. وزارة القوى العاملة أكدت أن على رغم عودة العمالة المصرية من ليبيا ستزيد حدة مشكلة البطالة، فإن جهوداً مكثفة ستبذل لتوفير فرص عمل للعائدين، مع مطالبة رجال الأعمال بالقيام بدورهم في التخفيف من حدة المشكلة التي تعصف بحياة الكثيرين من شباب مصر. واقع الحال يشير إلى أن قائمة أولويات رجال الأعمال ليست نفسها قائمة أولويات الوطن وشبابه، وإلا لاتخذوا مبادرة المساهمة في حل مشكلة البطالة قبل اضطرار الآلاف للسفر إلى نيران ليبيا. هجرة الشباب المصري غير المحسوبة بحثاً عن الرزق ليست وليدة اليوم، ولا حتى الأمس. هي مشكلة مزمنة، تطورت لتتحول إلى ظاهرة «مهاجري المراكب»، وتفاقمت لتصبح أشبه بالهروب من مقلاة الوطن إلى نيران الغربة، وفي ظل الربيع العربي تدهورت ليختار الشباب بين الموت بطالةً، أو الموت بالرصاص، أو الموت على الحدود.