يعتقد فريق من التوافقيين الديموقراطيين ان ثمة علاقة ديالكتيكية بين الديموقراطية التوافقية، من جهة، وبين الفئوية من جهة اخرى. فالاستقطابات الفئوية هي التي تفضي الى قيام نظام الديموقراطية التوافقية. العامل الرئيس في ولادة هذه الاستقطابات وفي تعميقها هو شعور المنتمين الى فئات رئيسة من الشعب بالظلم وبالتمييز ضدهم. فإذا امكن التخفيف من حدة هذه المشاعر من طريق معالجة مسبباتها، يصبح من المستطاع تغليب المصالح والانتماءات الوطنية على حساب الاستقطابات الفئوية والتقسيمية. العلاج يكون هنا على طريقة «وداوني بالتي كانت هي الداء»، اي معالجة المعضلة الطائفية من طريق التعامل مع الفئات المجتمعية كمكونات «طبيعية» للوطن ومع مصالحها ومطالبها كمعطيات مشروعة. استطراداً، يتعين على الدولة الحرص عليها والاستجابة لها بدلاً من إنكارها والسعي الى كبتها. في هذا السياق لجأت بعض الدول، مثل النمسا وكرواتيا وفي بعض الاحيان هولندا الى تطبيق نظام «الفيديرالية الشخصية»، اي السماح لكل فئة من فئات المجتمع باختيار قيادتها وبانتخاب ممثليها الى هيئات الدولة ومراكز صنع القرار فيها. عندما تسلك النخبة الحاكمة هذا الطريق، فتعدل بين الطوائف وتدفع عنها المظالم الحقيقية او المفترضة، اي عندما تطبق صيغة الديموقراطية التوافقية فإنها - يقول التوافقيون - تضع المجتمع على طريق نفي هذه الصيغة! يبطل مسوغ التوافق بمقدار ما يشعر المواطن ان الدولة ليست منحازة الى اية فئة من الفئات، وتضعف العصبية الفئوية كحافز للحراك السياسي، ويزداد الميل بين القيادات السياسية وبين المواطنين معاً للنظر الى اوضاع البلد من منظار وطني عام. واذا لم يحدث مثل هذا التحول من داخل النخب السياسية الحاكمة، فإنه سينشأ مع قيام نخب سياسية معارضة تتحدى التوافق الديموقراطي القائم وتمهد للانتقال من هذه الصيغة او النظام الى صيغة اخرى طابعها ديموقراطي وطني وأكثري بدلاً من الديموقراطي التوافقي. ارندت ليبهارت، ابرز الديموقراطيين التوافقيين، اعتبر ان النمسا وهولندا مرتا بمثل هذا المسار. ففي البلدين حققت الديموقراطية التوافقية نجاحاً تاماً... فأضفت على نفسها صفة «الإسراف والفيض»، الامر الذي جعلها تتراجع امام صيغ اخرى من الحكم. اذا كان هذا التوصيف صحيحاً، فهل يمكن القول إننا نقترب من الخلاص من الانقسامات الطائفية في الوقت الذي تبلغ فيه هذه الانقسامات حداً غير مسبوق وغير مألوف في تاريخ لبنان؟ هل يكون ما نشهده اليوم من دعوات الى المصالحة بين القيادات اللبنانية المتصارعة والى تشكيل حكومة وحدة وطنية - على رغم التأخر والتلكؤ في صنعها - ارهاصات مرحلة جديدة يغلب فيها الوطني على الفئوي واللبناني على الطائفي؟ هل نحن امام مناخ يشبه مؤتمر الدوحة حينما اعتقد فريق كبير من اللبنانيين واللبنانيات ان بلدهم سائر على طريق الحرب، فإذا به ينتقل بسرعة غير متوقعة من حال الحرب الى حال السلم؟ تأسيساً على ذلك، هل يمكن القول إننا نقترب، من حيث لا ندري ولا نخطط، من مرحلة يتحقق فيها التوافق الى درجة ينفتح فيها الطريق امام نفي مبرراته وأمام الارتقاء بالصيغة الديموقراطية التي نطبقها؟ لا ريب في ان اللقاءات بين القيادات اللبنانية الرئيسة والمحاورات الثنائية في ما بينها هي في حد ذاتها خطوة مهمة باتجاه اغلاق الابواب امام تجديد الحرب الاهلية اللبنانية. كذلك فإن الاتفاق الواسع حول مبدأ حكومة الوحدة الوطنية يشكل خطوة اخرى مهمة على هذا الطريق. بيد ان هذه الخطوات، على اهميتها، لا تقدم دليلاً على ان الانتقال من نظام الديموقراطية الطائفية المطبق في لبنان منذ ولادته عام 1926 الى نظام الديموقراطية القائم على المواطنية هو حتمي. وحتى لو تشكلت حكومة الوحدة الوطنية، ومن الارجح انها ستُشكل خلال الايام القريبة، فإن ما من سبب للاعتقاد بأن مثل هذه الحكومة او ان النخبة السياسية التي انجبتها ستفتح الطريق امام اصلاح النظام السياسي اللبناني على النحو الذي يظنه فريق من الديموقراطيين التوافقيين. في المقابل، هناك اكثر من سبب للاعتقاد بأن التسوية التي ستحقق بين اطراف النخبة السياسية الحالية - وهي تسوية مرغوبة على كل حال - ستؤدي الى تثبيت الوضع الراهن وليس الى الخروج منه. السبب الاهم لهذا الاعتقاد هو الطابع العام للانتخابات التي انجبت مجلس النواب الجديد. ذلك ان تطبيق الفيديرالية الشخصية في الانظمة الديموقراطية التوافقية المرشحة للاستبدال بأنظمة اكثرية يفضي الى تحفيز التنافس داخل الفئات التي يتكون منها المجتمع. الانقسامات داخل هذه الفئات تمهد بدورها الى تحالفات ذات طابع «وطني» عابرة للفئات. ومع هذه التحالفات يتحول التنافس من صراع سياسي لتمثيل فئة معينة الى صراع على تمثيل المواطنين عموماً. في الانتخابات اللبنانية الاخيرة استفحلت ظاهرة الطوائف المغلقة الى ابعد حد ممكن عبر الغاء هامش اعتاد الافادة منه مرشحون مستقلون من ذوي الكفاية والمكانة السياسية المرموقة. يمكننا المقارنة هنا بين تطبيق القانون الانتخابي نفسه خلال الدورتين الانتخابيتين عام 1960 والعام الحالي. فعندما طبق القانون في المرة الاولى افسح في المجال امام كل من الناخبين المسلمين والمسيحيين في بيروت لانتخاب مرشحيهم، ولكن كانت هناك منافسات قوية على الزعامة السياسية في الدائرتين الاولى والثالثة. اما خلال الانتخابات الاخيرة، فإن التنافس السياسي الحقيقي انحصر في الدائرة الاولى. هذه المقارنة تدلنا إلى اننا لسنا الآن في مرحلة تشبه المرحلة الشهابية التي «داوت الطائفية بالطائفية»، فأرضت الطوائف سياسياً وسعت، في الوقت ذاته، الى التخفيف من حدة الطائفية عبر السياسات الإنمائية والاصلاح الاداري. السبب الثاني الذي يدعونا الى الاعتقاد بأن الانتقال من الديموقراطية التوافقية الى نظام المواطنة لن يتم بصورة تلقائية هو الطابع العام للقاءات والمداولات والمصالحات التي تتم بين الزعماء والقيادات اللبنانية. ذلك ان غالبية هذه اللقاءات والمصالحات تتم في اطار البحث عن حلول عابرة وآنية للمعضلات اللبنانية، ووسط تجاهل مثير للقضايا التي تباعد بين اللبنانيين وتثير المخاوف والقلق في نفوسهم وتضع المجتمع على شفا توتر دائم. واذ يشير بعض القادة اللبنانيين المجربين الى مثل هذه القضايا المهمة، وينبه الى خطورتها، فإنه يفعل ذلك وكأنه يقول: «اللهم اني بلغت» ليس إلا. اذ تستمر القيادات اللبنانية في تأجيل البحث المجدي والهادف للقضايا المهمة، فإنها تحقق نجاحاً كبيراً في وضع «العربة امام الحصان». الذين يفعلون العكس، اي الذين يضعون الحصان قبل العربة، يبدأون بالاتفاق على القضايا الكبرى قبل ان يبحثوا في تشكيل الحكومات. هذا يعني ب «اللبناني» الجلوس الى طاولة الحوار الوطني اولاً والاتفاق على المبادئ الوطنية العامة قبل تشكيل الحكومة. على اساس هذا الاتفاق يجري بناء الائتلافات واستنباط البيان الوزاري وتوزيع الوزارات والمهمات الحكومية. وعلى اساس هذا الاتفاق يمكن تشكيل الحكومة كفريق عمل منسجم ومتماسك يسير بالبلد من مرحلة الانتقال الى الديموقراطية - اي المرحلة التي لا نزال نراوح فيها قرابة ستين عاماً - الى مرحلة توطيد الديموقراطية. ومن مرحلة اللاحرب واللاسلم، الى مرحلة الاستقرار والامن الوطني، ومن حال التخلف الى حال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. ان تشكيل الحكومة الجديدة، حكومة الوحدة الوطنية، مهمة ملحّة لا تقبل التأجيل المستمر. الالحاح على الاسراع في تشكيلها لا يعني ان يتوقع منها المرء الكثير. اما الآمال والأحلام الاصلاحية، فلن تحققها الحكومة الجديدة ولن تأتي بها بالصدفة ولا بالحتمية التاريخية ولا عبر ديالكتيك الديموقراطية التوافقية. ما عدا ذلك، فحسبنا من الحكومة الجديدة ان تمارس دور السلطة - الدركي، فتحفظ الامن وتبعد عن المجتمع كأس الاقتتال الأهلي المر، حتى يقيض للبنانيين ان ينهض من بينهم فريق من المواطنين والمواطنات يملك من الميزات ما يمكّنه من تحويل الآمال الاصلاحية الى واقع ملموس. * كاتب لبناني.