في صباح بيروتي جميل شمسه دافئة ونسيمه عليل، فسحة هنية بين فصلين: ربيع يستعد للمغادرة وصيف ينتظر على الأبواب. في صباح يضجُّ بأبواق السيارات وحركة الناهضين الى نهار عساه لا يضنّ عليهم بلقمة عيش كريم، في مدينة عاشت الفصول كلها ولا تزال منتظرةً فصل حياة عادية كأي مدينة أخرى في الدنيا، تشمُّ رائحة القلق، تراه في وجوه الناس، تقرأه على الجبين. بات القلق وشماً دهرياً على جباه اللبنانيين الذين خبروا كل الويلات والمصائب ويبدو أنهم لم يتعلموا شيئاً من التجارب المرّة و المريرة. حين نقول «اللبنانيين» نعني الطبقة السياسية بفرعيها الموالي والمعارض ومَن يساهم في انتاجهم انتخاباً وتأييداً وتلبيةً لنفير غرائزي لم يسأم دعاته من النفخ فيه. ومَن غير هؤلاء حوّل آذار الذي يسميه بعض الأدباء نوّار من شهر الربيع والتبرعم والتفتح والأريج الى آذارين تفوح منهما روائح الانشطار الطائفي والمذهبي واستيلاد الأزمات القاتلة. نقول الطبقة السياسية ومَن يساهم في اعادة انتاجها كل مرة لأن ثمة غالبية عظمى من المواطنين في كل الطوائف والفئات لم تعد تريد كل هذا القرف. غالبية نسميها صامتة لكنها في الواقع ليست كذلك، إنها غائبة أو مغيبة عن مواقع القرار وعن منابر الاعلام المنقسم على نفسه تماماً كما هو حال أهل السياسة. الاعلام في لبنان على صورة الطبقة السياسية ومثالها. لقد خبر اللبنانيون على مدى سنوات طويلة عُقم الحروب الطائفية والمذهبية التي لا تنتج سوى الويل والثبور وعظائم الأمور، مثلما خبروا نتائج استيراد أزمات الآخرين والتماهي معها الى حد لم تبق فيه دولة في الدنيا لم تفتح لها أو لأجهزة استخباراتها فرعاً في لبنان، فلمَ العود على بدء وتجربة المجرب رغم كون المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين؟ على مر السنوات العجاف يتبين أن اللبنانيين شعبٌ طيب محبٌّ للحياة. ليس هذا انشاءً أو زجلاً ومدحاً للذات. لقد أثبتت بعض المفاصل التاريخية أن اللبنانيين يتجاوبون مع دعوات السلم والهدوء والعيش معاً متى توافر خطابٌ عقلاني سياسياً واعلامياً يحضّهم على ذلك، لكن الضخ السياسي والاعلامي التحريضي والغرائزي يُسمم الحياة العامة ويستنهض العصبيات المميتة ويعيد الناس قبائل طائفية ومذهبية تتبادل الغزوات والثارات، والوطن مزرعة يتقاتل فيها الفقراء ويتقاسم مغانمها الأغنياء الممسكون بكل مفاصل السلطة والاقتصاد. مَن يعرف جيداً بواطن الأمور وما يدور في الكواليس يدرك تماماً أن هذه الطبقة التي تتخاصم باسم الطائفة والمذهب والمنطقة وبقية الأوصاف الشائنة انما تتقاطع مصالحها وتتشابك بشكل فاضح ومثير. بل ان بعض الخصوم الذين يحرّضون بسطاء الناس على التقاتل والتذابح يدخلون في شراكات تجارية واقتصادية ويتقاسمون الأرباح والمغانم سراً فيما يرفعون الشعارات الكاذبة على الملأ وفق ما تقتضيه أصول اللعبة. قد يبدو هذا الكلام «عكس السير»، لكن الربيع الحقيقي الذي ينتظره لبنان هو ربيع الخلاص من كل هذه الطبقة السياسية التافهة التي أكثر ما تنكشف ضحالتها وقلة حيلتها في جلسات البرلمان، وانتاج طبقة سياسية جديدة شابة متمدنة ومتحضرة تؤمن بأولوية الوطن على كل ما عداه وبديمقراطية حقيقية وتداول للسلطة بعيداً من منطق المحاصصات الطائفية التي لم تجلب سوى الموت والخراب، تمثل مصالح لبنان واللبنانيين لا مصالح الخارج الذي لا يهمه في نهاية المطاف سوى مصالحه. صباح بيروتي جميل نسيمه عليل لكنه مشوب بروائح خطاب سياسي نتن لا يبشر بخير. المعذرة.