كلما أتيت للكتابة عن عكار، كأن اللغة تأسرني، فأخسر قدرتي على وصف هبوب «الشمالي» وهو يحني قامات الحور ويكسر قلبي، وأذهب مباشرة إلى الغابة حيث كان يصطحبني والدي، أفتش عني هناك، لألملم أكواز الصنوبر لشتاء البيت. أسعف أبي في هذا العمل، وأسعف اللغة من دون أن أدري، ومن دون علمي، على احتمال طفولتي وهي تنصب ما ينبغي أن يجر وتتعثر في دروبها كتعثري في الطريق خلف ظلي. الآن وقبل أن أقع في فخ الحنين، قبل أن تأسرني اللغة وتذهب بي إلى هناك نحو العالي في جبال الشوح حيث ولدت، أو إلى قاع وادي الهد حيث تولد الحكايات في غفلة مني، أستخدم منها، أي من اللغة، صيغة القول إن أهلي هناك حين تهب الريح الشمالي ويشقق البرد الشفاه كالرمان، يتجمعون كالليل قرب موقد عتيق وقديم كفكرة الله. وحدهم الحطابون يعرفون الطرقات في الغابة، ويعلمون أنها لا تصل إلى مكان، أما الطريق التي تصل، فهي تصل إلى الموت. هذا الكلام لهايدغر الفيلسوف الألماني، أما أبي المزارع والحطاب فيعرف كل دروب الغابة، ومنها أيضاً الذي يفضي إلى خارجها بمقدار ما يعرف هايدغر في الفلسفة ... لكنّ الذين يصفون أهلي هناك بأنهم إرهابيون وأن عكار موطن الإرهاب فهم يعكرون صفاء اللغة، لأنهم يريدون حرق الغابة، غابة أبي، غابتي، بلادي! لو كان أبي حياً لضحك طويلاً من ظنهم واتهامهم وأميتهم، لأنهم ما سلكوا مرة دروب الغابة وما حملوا حطباً لشتاءاتهم. ولو كان هايدغر حياً لصنفهم بمسوخ المستبدين أو النازيين على رغم غموض موقفه من هتلر في زمانه، لعل حقدهم يشجعه على الوضوح، ووفق ظني فإن هؤلاء إضافة إلى هذا المحتمل من توصيف هايدغر، هم من صنوف كائنات هجينة نراها على الشاشة، لا تعلم أنها لا تعلم، ولكونها كذلك، فهي تقول أي شيء وعن أي شيء لا تعرفه، لذلك تثير الاشمئزاز بمقدار مهمتها الوسخة بإثارة الفتن. هؤلاء أصحاب خيال ضحل أكلت موهبتهم السياسة بنسختها اللبنانية الاستخباراتية، وتآكلت أخلاقهم في مفسدتها. هؤلاء علاقتهم بالحقيقة قائمة فقط على الإبداع في تزويرها لكي تبدو كأنها حقيقة! ولعل كل موهبتهم تتجلى في هذه الوجهة من النفاق. أسال هؤلاء بالنيابة عن أهلي، هل خبرتم الفقر والخبز الحاف؟ هل تشققت أقدامكم في الحقول وفي المراعي الوعرة حيث الرعاة يطوون الجبال هناك كالرسائل، ولا من ساعي بريد يحملها سوى الغمام؟ هل طوى الجوع قاماتكم كما أهلي في ظهيرة صيف وهم يحصدون القمح ويلفح الشرقي الوجوه كالجمر، ويغلبون الجوع بالغناء إلى أن يصل الزاد في أول الغروب؟ هل حصيتم الندوب في أيادي الفلاحين والحطابين والحصادين الكادحين؟ هل صادقتم الشجر، أو غفوتم تحت ظلاله بعد ظهيرة التعب؟ أظن لا يكفي أن نصف هؤلاء بمثيري الفتن أو بمسوخ المستبدين، ينبغي أن يحاسبوا أو يحاكموا بصفتهم قتلة. هؤلاء لا نحتاج كي نفهمهم أو نصفهم للاستعانة بفكر أو علم أو مثل شعبي أو حكمة أو معرفة أو لغة كما أفعل الآن، هؤلاء في حاجة إلى أن ياتي بهم أحد إلى طرابلس وعكّار ليتعرفوا إلى أنفسهم ووجوههم هناك، لكي يختبروا أنفسهم وإطلالتهم المتلفزة في هذه القرى النائية، في ثقافة أهل المكان . وإذا كان أحد منهم على يقين أن طرابلس وعكار مصدر الإرهاب، فلعله يدلنا بحضوره شخصيّاً على هذا الوكر الذي لا وجود له إلا في عقله أو مخيلته، أو هو تجلٍّ من تجليات نفاق يمارسه لخدمة أهوائه، وربما هذا هو الشيء الوحيد الذي يعلمه: يعلم أنه منافق. لو أن أحداً يأتي بهؤلاء إلى الشمال، ليروا الحرمان بصيغته الواقعية وليس «الشعاراتية»، ليتعرّفوا إلى الفقر والعوز، وأيضاً إلى العزة ورفعة النفس والكرامة والوطنية ومعنى الانتماء... لعل هواء الشمال ينعش ما مات في عقولهم وأرواحهم ويزيل الغشاوة عن عيونهم، لمشاهدة وجوههم في مرآة شمالهم، ليتعرّفوا إلى مدينة خطفت منذ خمسة وثلاثين عاماً من مدنيتها وتركت للنسيان. أظنهم يعلمون من خطفها، ولكن فقط لتذكيرهم بأن تلك العصابات التي سماها بعضهم بحركات تحرر وجبهات صمود وممانعة هي التي خطفت طرابلس، خطفها الاستبداد وعرّاها من معناها، مدينة التاريخ والتعدد والعلم والقضاء، مدينة الحرف والمدارس والكليّات والمقاهي ودور السينما والميناء ومرافئ الصيادين ومحطة القطار الذي كان يصلها بالعالم... وعلى رغم تلك المهانة التي تعيشها مدينة الخير أم الفقراء، لم تذهب طرابلس إلى الانتقام، بل وقفت في الصبر، وتبدو حتى الآن مدينة مخطوفة ومهانة، تراهن على الأمل... وكذلك عكّار لم يدفعها حرمانها إلى تأليف عصابات مسلحة للنهب، نهب البلاد كما أنتجت حروب الطوائف، بل ذهبت إلى الدولة مباشرة، واختار شبابها مواجهة الفقر في أن ينتموا إلى مؤسسة الجيش كي لا يقعوا في الشرك وتعميهم الأيديولوجيات الأرضية والسماوية. هو جرح قديم. هو جرح قديم يا أبي. كلما أتيت للكتابة عن هذا الجرح هناك، أقع في الحنين، ولكن، وحدهم أهلي يعرفون دروب الغابة، ولذلك يعرفون أيضاً كيف يحمونها من الحريق. * روائي وإعلامي لبناني