«فن بناء الكراهية» هو الميدان الذي أمكن للطوائف اللبنانية، بممثليها الدينيين والسياسيين، أن تحقق فيه نجاحات متواصلة على مختلف الجبهات، تجسدت في تعميق الانقسام بين اللبنانيين، وحرق جسور التلاقي، وتعليق الشعب على مشجب الخيانة والعمالة وفق تفسير كل طرف لولاء الخصم. على امتداد سنوات استخدم ممثلو الطوائف أساليب متعددة لإبقاء الاستنفار جاثماً على صدور «الشعوب اللبنانية»، ولم يتركوا مناسبة من دون توظيف في هذا المجال. يبدو أن البلد مقبل على جولة تصعيدية من الكراهية، بدأت طلائعها تدق أبواب كل لبناني. فتح زعماء الطوائف المعركة الانتخابية النيابية مبكراً، وعلى رغم أن عاماً يفصلنا عن موعد هذه الانتخابات، إلا أن هؤلاء ارتأوا إدخال اللبنانيين في أتونها منذ الآن، من خلال استحضار أشباح الحرب الأهلية، واستعادة موروث الانقسامات الحادة، واعتبار كل واحد أن المعركة القادمة هي معركة مصيرية تحدد لكل طائفة ولكل زعيم موقعه المستقبلي. من مدخل قانون الانتخابات الذي يريده كل واحد مفصلاً على مقاسه، إلى توزيع الدوائر، واقتراع المغتربين... وعبر الادعاء بتصحيح التمثيل الشعبي ومنع الغبن عن هذه الطائفة أو تلك، وعبر التخبط في ممارسة السلطة والمعارضة وإلقاء كل طرف أسباب الفشل على الطرف الآخر، انطلقت المعركة الانتخابية هادرة بالتحريض المذهبي والطائفي ونبش القبور وحض الهمم على الاحتشاد، في وصفها العناصر الفعلية القابلة لشد العصب الجماهيري حول الطائفة وقياداتها. تيسّر وسائل الإعلام المملوكة أصلاً من الطوائف، ومعها وسائل التواصل الاجتماعي، وكل ما تقدمه ثورة الاتصالات من تسهيلات في بث الخبر وإيصال المعلومة إلى كل مكان، تيسّر هذه التكنولوجيا نقل التعبئة والتحريض وتمكّن المواطن من معرفة ما يريد زعيمه إيصاله إليه. صحيح أن البلد اعتاد منذ سنوات على خطاب الانقسام الأهلي والحشد الطائفي والمذهبي، لكن طليعة المعركة الانتخابية افتتحت بتصعيد في الكلام التحريضي التخويني، وعبر لغة سوقية من سقط المتاع، مما يعني أن القادم سيحمل أهوالاً لا يمكن منذ الآن تصور حجم المخزون البذيء والمنحط الذي سيكون اللبنانيون مسمّرين داخله، لأن الكل يرى معركته مصيرية. أمكن للمؤسسات الطائفية أن تنجح في تدجين «الشعوب اللبنانية» وتنزع منها العصب المطلبي والاجتماعي لصالح العصب المذهبي. خلال الأسابيع الماضية شهد البلد مفارقات ذات دلالة كبرى. في وقت يئن الشعب من المصاعب الحياتية التي تطاوله في كل شيء، من لقمة العيش إلى عمله، إلى الصعوبة الكبرى في تحمل نفقات الخدمات... كانت المفاجأة أن الشعوب اللبنانية امتنعت عن الاستجابة إلى نداء النزول إلى الشارع من أجل مطالبها المهنية والحياتية، ولم تسجل سوى بضع مئات لبوا نداء الاتحادات العمالية، فيما احتشد عشرات الألوف في المهرجانات الطائفية والمذهبية التي دعي إليها اللبنانيون في أكثر من مكان. وهي مفارقة لا توحي ببصيص أمل في أن يعي اللبنانيون مخاطر الاستقطابات الطائفية والمذهبية التي يجري شحنهم داخلها إلى أقصى الحدود. والمفارقة الأخرى تتصل بكيفية تعاطي اللبنانيين مع التطورات الإقليمية الجارية في المنطقة وخصوصاً منها الأحداث في سورية ومدى انعكاسها على الساحة اللبنانية. لو كان اللبنانيون يتمتعون بأهلية الحفاظ على وطنهم، لشكلت الحرب الأهلية الدائرة في سورية مجالاً لاستقطاب وطني يهدف إلى منع امتداد شرارة الحرب الأهلية إلى الداخل اللبناني. في المقابل، تشكل الأحداث السورية، سواء من المراهنين على إسقاط النظام أو على بقائه، فرصة لتغيير ميزان القوى من كل طرف، والاستئثار بالسلطة مدعوماً من الخارج. على رغم أن اللبنانيين عانوا مرارة الاستعانة بالخارج والمراهنة عليه في احتكار السلطة، إلا أن الوعي اللبناني ظل بعيداً عن الإفادة من دروس الانقسام والاقتتال الذي يسببه اقتران الانقسام الأهلي الداخلي بالتدخل الخارجي. إن التطورات السورية تقتحم الساحة اللبنانية بقوة، وقد بدأت آثارها الأمنية والسياسية تفرض نفسها في شكل شبه يومي. يجب أن يتذكر اللبنانيون أن الحرب الأهلية تبدأ بالكلمة، ثم تتحول الكلمة إلى رصاصة، لتتواصل في شتى أنواع الأسلحة. ما نسمعه من خطابات اليوم لا يمكن إدراجها في خانة الكلام فقط، بل هي قنابل موقوتة مهيأة للانفجار في كل لحظة. من الغريب حقاً أن اللبنانيين الذين خبروا الحروب الأهلية منذ أربعة عقود وحتى اليوم، بأشكالها الساخنة والباردة، ينسون فجأة أن الكلام العالي النبرة والشحن المذهبي والتحريض على الآخر كان في صلب انفجار حروب البلد والانهيار الذي إصابة في مجمل بناه. لكأنّ الطوائف لم تكتف بنزع العصب المطلبي من الشعب، بل نزعت عنه ذاكرته وعقله. ستشهد الأشهر المقبلة المزيد من الجولات الانتخابية المصحوبة بالتأجيج الطائفي والمذهبي لكسب أصوات الجمهور في كل مذهب ومنع قيام استقطابات خارج منطق هذه المحاور، ومعها سنشهد طلات «غير بهية» لزعماء لا قيامة لهم، ولا قدرة على تجييش الجمهور من حولهم، من دون زرع الكراهية بين المؤيدين ضد الآخرين من أبناء الشعب نفسه. فإلى عام يقاد فيه اللبنانيون إلى «عبوديتهم المختارة». * كاتب لبناني