على رغم ان الانتفاضات العربية خلقت منذ عام بعض الامل في مشهد عربي مختلف عما هو سائد من استبداد وقمع على كل المستويات، إلا ان ممارسات الانظمة العربية في مواجهة الحراك تبتدع من الاساليب الرهيبة في تحويل الحراك الى تمزق في النسيج الاجتماعي في كل بلد، والى تسعير في النزاعات الطائفية والمذهبية والعصبية، بما ينتج الحقد والكراهية بين فئات الشعب، بحيث يستحيل التعايش المشترك في ما بين المجموعات مستقبلاً، ويتحول الاحتراب الاهلي الى القانون الذي يحكم هذه العلاقات. لعل بعض الامثلة عن سياسة النظام العربي في زرع الكراهية وتأصيلها يبدو ساطعاً في بعض مناطق العالم العربي. يقدم المشهد السوري صورة فاقعة عن إمعان النظام، عبر اجهزته القمعية و «شبيحته» في تأجيج الصراع المذهبي والطائفي. منذ اليوم الاول للانتفاضة، ادرك النظام ان خير سبيل لإجهاضها يمر عبر إغراقها في لجّة صراع طائفي ومذهبي يجد جذوره كامنة في صلب البنى الاجتماعية السورية. اجرى تجييشاً طائفياً ضمن الطائفة العلوية التي تمسك نخبها العسكرية والمدنية بمفاصل الدولة منذ اربعين عاماً، فصوّر لها الحراك على انه إنهاء لموقع الطائفة ودورها، وأقنع نخبها بأن بقاء النظام يعني في جوهره ديمومة سلطة الطائفة. وأكمل تحريضه على سائر الاقليات المسيحية والدرزية... وأوهمها بأن السلفيين والمتطرفين قادمون لسحقها. لم يكن لهذا التحريض والتجييش ان ينجح من دون ممارسة ابشع انواع القتل والتعذيب والاضطهاد من جانب الاجهزة الامنية، بحيث يخلق حالة من الكراهية الشعبية والحقد على الطوائف التي يستند اليها النظام. ما يرغبه النظام هو سيادة ردود فعل انتقامية وقتل على الهوية وتنكيل بالجثث، بحيث تستحيل اعادة وصل العلاقات بين المجموعات، في ظل برك الدماء المنتشرة هنا وهناك. لا شك في ان النظام نجح الى حد بعيد في تكريس الكراهية بين مجموعات واسعة من مكونات الشعب السوري. بعد سنوات من شلالات الدم التي سالت في العراق في سياق الحرب الاهلية المندلعة بالرعاية الاميركية، كان منتظراً ان يؤدي الانسحاب الاميركي الى استنهاض الوطنية العراقية وإلى طي المجموعات السياسية خلافاتها، والسعي في المقابل الى اعادة بناء الدولة العراقية على قاعدة التعددية السياسية واعتراف المجموعات المتبادل ببعضها بعضاً. لكن المفاجئ ان الانسحاب العسكري الاميركي فتح صراعاً على السلطة منذ اليوم الاول له، وذهبت القوى السياسية في اطلاق تهم التآمر والخيانة وغيرها من التعابير المعتادة في عالمنا العربي. لكن الاخطر في النزاع المندلع هو سعي بعض القوى الى الاستئثار بالسلطة استناداً الى غلبة طائفية ومذهبية، وهو ما سيترجم نفسه في تجدد الاقتتال الاهلي، وابتعاد المجموعات عن إمكان التلاقي في تقاسم السلطة، وهو نزاع سيولّد المزيد من سفك الدماء، وتعميق الأحقاد بين الطوائف والمذاهب. والاسوأ من كل ذلك، ان ما يجري يظهر للعالم ان الاحتلال الاميركي كان خير ضامن للأمن والسياسة في العراق، وأن انسحاب الجيوش الاميركية اظهر قصور العراقيين عن حكم بلدهم، بل عن انعدام الجدارة في حقهم في الاستقلال. مثل آخر يحمل الكثير من الفجاجة في بناء الكراهية بين أبناء الشعب الواحد، ألا وهو الحالة اللبنانية. فمنذ عقود تعمل الطوائف وممثلوها السياسيون على استخدام التحريض الطائفي والمذهبي وسيلة لتجييش المجموعات اللبنانية والإمساك بمقاليد السلطة في شكل كبير. لم يكن التحريض الطائفي جديداً، بل كان حاضراً في كل محطة من محطات الصراع السياسي، وكان مقصوداً في ذاته من المؤسسات الدينية والطائفية وقواها السياسية. استفحل التحريض الطائفي والمذهبي خلال الاعوام الاخيرة في شكل رهيب، وكانت المناسبات الدينية مسرحاً للتعبير عن هذا الحقد الذي ينفثه ممثلو الطوائف، وكان آخرها ما شهدته المنابر في مناسبات دينية من تحريض كلامي، كان لا يفصله عن الرصاص سوى شعرة. استخدم بعض رجال الدين، من هذا الجانب او ذاك، شتم رموز دينية في استعادة لصراع سياسي على السلطة منذ ألف وخمسمئة عام، ووضع البلد امام مشاهد تعود الى تلك القرون، وكأن حروب «الجمل وصفين» عادت وانبعثت لتدور رحاها على الساحة اللبنانية. ولم تكن تلك الحروب، لا سابقاً ولا راهناً، على صلة بالدين وقيمه الانسانية والاخلاقية، بل كانت صراعاً بين القبائل العربية على السلطة والثروة، استخدم فيها كل طرف النص الديني وفقاً لأهدافه الخاصة. هكذا بدت المجموعات اللبنانية مصرّة على الاقامة في ماضيها وعلى الاحتراب الدائم بين طوائفها، خصوصاً ان ممثلي الطوائف اكثر ادراكاً لمعنى ديمومة هذا الاستنفار بوصفه الطريق الاوحد لحشد الجماهير خلفهم وللإمساك بالسلطة. لا يقدم المشهد المصري صورة مغايرة عن الاستنفار الطائفي والمذهبي، بعدما باتت حوادث القتل والتخريب الطائفي متكررة في اكثر من مكان. سيزداد مخزون التحريض والكراهية بعدما سجلت قوى طائفية ومذهبية مواقع متقدمة في الانتخابات التشريعية، وبدأت تعلن صراحة عن رفض الاعتراف بالآخر وبحقه في العمل السياسي والتعبير عن فكره. ما يبدو حتى الآن في مصر قد يكون «رأس جبل الجليد» لما هو آتٍ من صراع على طبيعة الدولة المصرية، وهو صراع قد لا يظل محصوراً في اطار المؤسسات الدستورية، ليندلع عنفاً مسلحاً بين المجموعات المصرية. هذه الوجهة المتزايدة في زرع الكراهية وإنتاجها في العالم العربي ليست قدراً مقدراً، فهي نتاج ممارسات بالكلمات والافعال. على رغم الدمار الذي تخلفه داخل الشعب، إلا ان الانتفاضات الجارية، مع كل العسر الذي تعيشه، تظل احدى الوسائل في بناء دولة تقوم على الاعتراف بالآخر واحترام الحقوق السياسية والدينية، بوصفها تجاوزاً لمنطق الكراهية نحو علاقة تقوم على التفاهم والتواصل. * كاتب لبناني