تتميز منطقة وسط البلد في القاهرة بنمطها المعماري المميز، الذي يعود بعضه إلى بداية التخطيط العمراني لتلك المنطقة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في عهد الخديوي إسماعيل والذي أراد عاصمته مماثلة للعواصم الأوروبية، فاستقدم إلى القاهرة المعماري الفرنسي هاوسمان الذي حولها إلى تحفة معمارية تنافس أجمل المدن. مثلت القاهرة الخديوية بداية العمران المصري في صورته الحديثة. هذا الكنز الذي تراكم عبر السنوات اللاحقة، ما زالت شواهده ماثلة إلى اليوم، تشكل على رغم التدهور الذي لحق بوجه هذه المنطقة جزءاً من التاريخ المصري الحديث. رصدت المصورة الروسية زينيا نيكولسكايا، عن قرب بعض المعالم المعمارية للقاهرة الخديوية، وما آلت إليه حال الكثير من هذه المعالم المهمة، نتيجة الإهمال، وسجلت شهادتها في عدد من الصور الفوتوغرافية تعرضها حالياً في غاليري «تاون هاوس» بالقاهرة تحت عنوان «تراب». وتراب عرض فوتوغرافي يستكشف تراث مصر المعماري المهجور، وهو أيضاً عنوان لكتاب يحوي صوراً ونصوصاً مكتوبة. ورافق المعرض ندوة بعنوان «متابعة الوقت» عقدت في مسرح روابط تحدث فيها المؤرخون المعماريون والفنانون شيماء عاشور وفيتوريا كابريزي ومحمد الشاهد وزينيا نيكولسكايا وعلا سيف عن مواضيع مرتبطة بالتراث المعماري القاهري في ضوء أبحاثهم ومشاريعهم الشخصية. ينظر «تراب» في أوضاع المساحات المعمارية غير المأهولة وأهميتها في مصر، ويطرح من خلال ذلك الاسم مسألتين مرتبطتين، فالتراب هو المادة التي تكونت من طبقاتها المدينة، والتي يمكن من خلالها تتبع مسار الزمن في البيئة العمرانية، وهو أيضاً استعارة لفظية، تسجل التغيرات التي حدثت وما زالت تحدث في الذاكرة. والشكل المعماري الذي ميَّز وجه القاهرة في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، والذي يشار إليه بصفته «معمار كوزموبوليتاني» أي له نكهة دولية، تعرض إلى الهدم والإهمال بفعل النمو السكاني والانتعاش العقاري، ما يجعل من توثيق نيكولسكايا للمساحات المبنية أمراً مهماً. «تراب»، مشروع مركب ومتعدد الجوانب، فهو لا يستعرض فقط الجانب الفني، ولكنه يقوم بتوثيق عمارة مصر التي تعرضت إلى الهدم والنسيان. وإضافة إلى قيمتها الفنية، فهي أيضاً مصدر قيّم للمعلومات المتعمقة، والتي تقدم نظرة طويلة الأجل على التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بمصر. عندما بدأت الفنانة مشروعها عام 2006، عملت بدافع من الفضول كما تقول، ولكن عندما دخلت مصر مصادفة في لحظة تغير حاسمة، أصبح مشروعها يركز الضوء على الركود الاقتصادي الذي حدث في مصر عبر 30 سنة مضت. ويؤكد مشروع نيكولسكايا أهمية توثيق ما يحدث في فترات التحوّل، ويوضح الحاجة إلى التفكير في تاريخ مصر من أجل فهم مستقبلها. انتهى العمل في معرض «تراب» مطلع السنة الماضية، أما الكتاب المرافق له فقد صدر عن دار «ديوي لويس» ويضم 70 صورة من 30 موقعاً في مصر، منها القاهرة والإسكندرية والأقصر والمنيا وإسنا وبورسعيد وقرى في الدلتا. تعيش زينيا نيكولسكايا بين سان بطرسبورغ وستوكهولم والقاهرة. درست في الأكاديمية الدنماركية الملكية للفنون الجميلة وحصلت على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من الأكاديمة الروسية للفنون الجميلة في سان بطرسبورغ. عملت مصورة فوتوغرافية منذ 1995، وعرضت أعمالها في معارض منفردة وجماعية على مستوى العالم. وقامت بأعمال أيضاً لحساب «نيوزويك» و«جيو» و«كوزموبوليتان» و«إيل» ومتحف أرميتاج. كما درّست أيضاً الفوتوغرافيا في الأكاديمية الروسية للفنون الجميلة، وجامعات روتجرز ونيويورك والجامعة الأميركية في القاهرة.