برحيله في العاصمة الأردنية، الخميس، يكون عازف العود والكمان والمؤلف العراقي، غانم حداد، طوى صفحته في كتاب الموسيقى العربية المعاصرة، لكنه طبعها بعلامات بارزة وعميقة منذ النصف الأول من القرن العشرين عندما قامت الموسيقى العربية بأولى خطواتها في اتجاه الحداثة. لم تعد مستغربة وفاة فنان عراقي في بلاد غير بلاده، كما هي حال حداد الذي رحل عن 87 سنة، لفرط ما تكررت هذه الأخبار خلال العقود الأخيرة، بل صار مشهد رحيل أهل الفن والأدب والعلوم والمعارف من العراقيين، خارج بلادهم، جزءاً من «فولكلور» عراقي، ومن محنة مستمرة. كان حداد، صاحب الأعمال الموسيقية المهمة بأشكالها النغمية العربية كلاسيكية، مثل «السماعي»، استقر في العاصمة الأردنية منذ حاصرت الحروب مدينته التي أحب، بغداد التي ولد فيها العام 1925 وأكمل فيها دراسته الموسيقية في معهد الفنون الجميلة حين كان معقلاً لورشة الحداثة الفنية في العراق، موسيقياً ودرامياً وتشكيلياً. مسيرة الحداثة كان الراحل أحد أربعة أحدثوا انعطافة عميقة في مسار الموسيقى العراقية صوب حداثة لا تتنكّر لأصولها العربية والشرقية عموماً، فأصبح، مع جميل ومنير بشير وسلمان شكر، من أركان «مدرسة العود العراقية». ومثلما كان جميل بشير عازف كمان قديراً، فضلاً عن براعته على العود عزفاً وتأليفاً، كان الراحل حداد كذلك، فرسّخ موقعه ضمن الفرقة الموسيقية ل «دار الإذاعة العراقية» وقدم لها الكثير من مؤلفاته الموسيقية، كما عُيّن مدرّساً للموسيقى في معهد الفنون الجميلة العام 1956 كمتخصص في العود والكمان الشرقي، وتسلّم أيضاً رئاسة قسم الموسيقى والإنشاد في المعهد ذاته، قبل ان يكمل دراسته التخصصية في الموسيقى مطلع العام 1960 في براغ. وفي حين كان غانم ايليا حداد، أحد أربعة رواد في «مدرسة العود العراقية»، فإنه كان أيضاً واحداً من خمسة شكلوا فرقة موسيقية صغيرة (تقارب شكل موسيقى الصالة الغربية المعروفة)، وهي فرقة «خماسي الفنون الجميلة» التي يكفيها فخراً أنها حفظت أشكالاً موسيقية موروثة وقدّمتها معاصرة، من دون الإخلال بعمقها وأصالتها، كما قدّمت مؤلفات معاصرة اجتهد اعضاؤها البارعون في تأليفها: غانم حداد (كمان)، سالم حسين الأمير (قانون)، روحي الخماش (عود)، حسين قدوري (تشيللو)، وحسين عبدالله (رقّ). ويذكُر كثيرون اعتزاز العراقيين بالفرقة التي تابعوها أسبوعياً على شاشة التلفزيون الرسمي، في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، إذ كان يخصص لها، كل يوم جمعة، نصف ساعة من البث تعزف خلالها مقطوعات وأغانٍ عراقية قديمة ما زالت راسخة في الأذهان ويذوب فيها عشاق الفنان الراحل. «سولاف» وإذا كانت هناك معزوفة عراقية معاصرة تحضر في عشرات الأمسيات التي تحييها أسماء موسيقية عراقية، في داخل البلاد وخارجها، فهي ستكون قطعاً معزوفة «سولاف» التي ستظل درساً عميقاً في «التصوير الموسيقي»، إذ عنيت بقراءة نغمية للمكان (ثمة مَصيَف باسم المقطوعة في منطقة كردستان) منفتحة على تأثيرات إنسانية عبر الاتصال مع روحية نغمية كردية. وقد تكون تلك المقطوعة الأيقونة السبب الذي دفع الراحل إلى تسمية ابنته، عازفة البيانو، «سلافة»، التي حققت في الغربة أكثر من نجاح، وكذلك فعلت شقيقتها شهلاء، وشقيقها عطيل عازف البيانو وأستاذ الموسيقى في كندا، وشقيقها أنس العازف والموزع الموسيقي. يذكر أن حداد توفي الخميس على أثر أزمة صحية مفاجئة دخل بعدها في غيبوبة استمرت 24 ساعة قبل وفاته. وشغل الراحل، إضافة إلى منصب رئيس القسم الموسيقي والإنشاد في معهد الفنون الجميلة، عضوية مجلس نقابة الفنانين العراقيين ورئاسة القسم الموسيقي لدائرة الإذاعة العراقية، وعضوية اللجنة الوطنية للموسيقى.