عندما نسمع أي أغنية، إما نُطرب لها أو لن نُطرب أبداً. إما تشدّنا وإما تُبعدنا. إما تخطف قلوبنا لتدقّ كأنها في حضرة الحبيب الأول، أو تتفلّت منها المشاعر وترفضها من عتبة الأذن. لكن ما أن يقع الدماغ في حبها وتتغلغل نوتاتها في شرايينه، حتى يرتفع الأدرنالين وتطير أرواحنا في رحلات سريالية شغفية تمرّ بنغمات الشوق واللقاء والهيام والعشق. تتمايل رؤوسنا وأكتافنا. تتعالى الأذرع. تصفّق الأيادي. فتراقص الأجساد صوت المغني الشجي في حوار سرّي يدور على طاولة لاوعينا الفردي. تنتقل العلاقة من مرحلة اللهفة والانبهار والهيام، إلى ترسيخ العلاقة بين الأغنية والدماغ الذي يحاول التعرّف إلى تفاصيلها ومغاورها الجمالية ليحفظ الكلمات واللحن فتردّدها الشفاه. ومع مرور الزمن يتخاوى العاشقان في الذاكرة، فترتقي الأغنية من مرحلة الشغف إلى مرحلة التخزين الأبدي في العروق والنفس والعقل. تتحوّل من مجرد حالة طرب إلى مفتاح لأبواب مغلقة على أسرار وقصص وروايات وذكريات عائلية وعاطفية وربما جماعية. مفتاح نقرّر أن نستخدمه بمجرد تشغيل «كاسيت» ما، أو أسطوانة، أو «سي دي» أو حتى فيديو على يوتيوب. فيُصبح صوت المغني الحنون كدفء حضن الجدّة وحليب الأم وسيجارة الأب وضحكات الأطفال في حقول شقائق النعمان، مجرّد كاميرا. لكنها كاميرا حيّة ومباشرة توثّق بالأبيض والأسود الآن وهنا لمشاهد مرت منذ زمن، أو منذ ساعات، أو منذ برهة. كاميرا تركّب الآن وهنا منمنمات من مشاهد في بيت الطفولة، أو في المدرسة، أو على كورنيش البحر، أو في سهرات السمر مع الأصدقاء. هي مشاهِد فريدة وحميمة، لكنها في تطوّر دائم، تتراكم كلّما أعدنا سماع الأغنية مرّة جديدة حيث يدخل عنصر إضافي على حبكة الفيلم. الصوت هنا الذي حُفر في أعماقنا، ليس صوتاً معتّقاً، ولا حزناً دفيناً، ولا ذروة النشوة اليتيمة التي تحضر مرّة وحيدة فقط، الصوت هنا أيقونة من الزمن الجميل شاهِدة على تاريخ ثقافة ونهضة حضارة. الصوت هنا ثمين جداً أثمن من حياة صاحبه بحدّ ذاتها، فهو الشاهِد أيضاً على وجود هذا المبدع المرهف وهو الذي يُخلّده. الصوت هنا هو صوت وردة الجزائرية التي أسعدتنا وأبكتنا وأذاقتنا طعم الحب والفراق والشوق. الصوت هنا صوت أغانٍ لكل منها حكاية حميمة تجمعنا بأصدقاء وأقارب وأعزاء، أغانٍ أعطت ذكرياتنا هوية وسجلاً وصوتاً وصورة. الصوت هنا صوت وردة النضر الذي لا يذبل أبداً.