مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    الأمن.. ظلال وارفة    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    ضيوف برنامج خادم الحرمين يؤدون العمرة    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    «إسرائيل» ترتكب «إبادة جماعية» في غزة    التحليق في أجواء مناطق الصراعات.. مخاوف لا تنتهي    من «خط البلدة» إلى «المترو»    أهلا بالعالم    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    كرة القدم قبل القبيلة؟!    قائمة أغلى عشرة لاعبين في «خليجي زين 25» تخلو من لاعبي «الأخضر»    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    ضبط شخص افتعل الفوضى بإحدى الفعاليات وصدم بوابة الدخول بمركبته    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    رفاهية الاختيار    النائب العام يستقبل نظيره التركي    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    استثمار و(استحمار) !    وسومها في خشومها    وانقلب السحر على الساحر!    منتخبنا كان عظيماً !    الضحكة الساخرة.. أحشفاً وسوء كيلة !    الأخضر يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة العراق في خليجي 26    نيابة عن "الفيصل".. "بن جلوي" يلتقي برؤساء الاتحادات الرياضية المنتخبين    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    إحباط تهريب (140) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    آل الشيخ: المملكة تؤكد الريادة بتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن حكومة وشعبا    موارد وتنمية جازان تحتفي بالموظفين والموظفات المتميزين لعام 2024م    "التطوع البلدي بالطائف" تحقق 403 مبادرة وعائدًا اقتصاديًا بلغ أكثر من 3مليون ريال    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    مسابقة المهارات    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«محطات في رحلة العمر» بين رحاب المدينة ومسؤوليات في الإدارة السعودية
نشر في الحياة يوم 22 - 07 - 2009

استرعى انتباهي عنوان الكتاب «دبلوماسي من طيبة»، غير أن الكاتب وزير الدولة للشؤون الخارجية الدكتور نزار بن عبيد مدني، لم يشأ أن يطيل تساؤلي، فجاءت الإجابة سريعة في كتابه «محطات في رحلة العمر»، في محطته الأولى التي أطلق عليها «الجذور». يروي قصة بذرة زرعت في رحاب المسجد النبوي الشريف، ونمت وترعرعت بجوار قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وعاشت مراحل الطفولة والمراهقة كما يصفها «في أجواء هذه المدينة ومرابعها ومراتعها، وتنفست عبق مسجدها وروضتها ومقامها، وتفيأت ظلال نخيلها وسدرها وكرمها، وتنسمت عبير وردها وفلها وريحانها، وتذوقت حلاوة رطبها وعنبها وتينها، وسرت في أزقتها الضيقة ومناخاتها الفسيحة وساحاتها التي يطمئن إلى مرابعها حمام السلام».
كان واضحاً وجلياً أن هذه النشأة شكلت وجدان الكاتب، ورسمت شخصيته فكراً وسلوكاً، وحددت منذ سن مبكرة قناعاته وفلسفته في الحياة، قناعات لم تؤثر فيها ضغوط الحياة، ولم يَسْمُ عليها وهج المهمات التي تقلدها أو المناصب التي شغلها. كيف لا وهي تستند إلى كتاب الله وهدي نبيه المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، يسترجع فيها الكاتب دوماً قول الله عز وجل «فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً»، وقوله تعالى «وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم» وأن «كل إنسان - هو بالفعل - ميسر لما خلق له».
ومن غير المستغرب أن تجد أن السمة البارزة لكل المحطات هي الطمأنينة أولاً، والطمأنينة أخيراً. بل ظل المنهج الإسلامي العنصر الرئيسي في طريقة تفكير الكاتب. يقول عن حياته الجامعية أيام كان يدرس في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة: «مع أن المواد التي درسناها احتوت على مواضيع وقضايا ونظريات مثيرة وممتعة في ما يتعلق بتطور الفكر السياسي منذ أفلاطون وأرسطو، مروراً بعصر النهضة الأوروبية، ووصولاً إلى القرن العشرين، أو بتاريخ العلاقات السياسية الدولية، خصوصاً منذ مؤتمر وستفاليا حتى نشوب الحرب الباردة، إلا أنني وجدت نفسي منصرفاً الى قضية باتت منذ ذلك الحين تشكل لي هاجساً كبيراً وتنال قسطاً وافراً من اهتمامي، ألا وهي موقف الإسلام من كل تلك القضايا والمواضيع والنظريات، ولذلك فإنني لم أجد في أي مادة من المواد التي كنا ندرسها ما كان يمكن أن يشفي ويروي ظمئي أو يجيب عن التساؤلات الكثيرة التي كانت تتقافز في ذهني ويلوب بها خاطري وتشغل فكري واهتمامي».
وفي موضع آخر يتحدث عن حقبة زمنية مهمة في التاريخ العربي تمثلت في المد القومي للرئيس جمال عبدالناصر، الذي تزامن مع وجود الكاتب في القاهرة للدراسة الجامعية، وتأثير الآلة الإعلامية المصرية في قلوب الشباب ودغدغة مشاعرهم وأحاسيسهم. ويعترف الدكتور نزار مدني بتأثره، إلا أن المنهج الفكري الإسلامي استحوذ أيضاً على رؤيته لتلك المرحلة قائلاً: «لعلي استدرك فأقول إنني وإن كنت قد وقعت مثل غيري من الشباب في تلك المرحلة – في أسر شخصية عبدالناصر الكاريزماتية – إلا أنني كنت أقلهم اندفاعاً في تبني فلسفته وأفكاره، والخضوع لآلته الإعلامية الجبارة، كان يحز في نفسي ويؤلمني في آن أن أرى الإسلام مغيباً إلى حد كبير عن فكر عبدالناصر، الذي اقتصر في فلسفة الثورة على إعطاء دور ثانوي وهامشي للإسلام في الدوائر التي رسمها للسياسة الخارجية المصرية، لا يتفق مع تاريخ مصر الإسلامي الحافل ولا مع مكانتها المرموقة في العالم الإسلامي ودورها المؤثر في خدمة قضايا الإسلام والمسلمين».
واستمر المنهج الإسلامي مسيطراً على فكر ووجدان ديبلوماسي طيبة في المراحل الدراسية اللاحقة، حتى وجد ضالته في سياسة التضامن الإسلامي للملك فيصل بن عبدالعزيز - رحمه الله - ليخط من خلالها أطروحته للدكتواره في جامعة جورج واشنطن تحت عنوان «المحتوى الإسلامي للسياسة الخارجية السعودية: دعوة الملك فيصل للتضامن الإسلامي 1965-1975»، جند من خلالها كل موروثه الثقافي الإسلامي للتصدي للتجاهل التام لنظريات السياسة الدولية للدور الذي قامت به الحضارة الإسلامية في بناء تقاليد التعامل الدولي، ودحض الصورة المشوهة للإسلام الناجمة عن سوء الفهم أو سوء النية، والعمل على الجمع بين مفاهيم الإسلام التقليدية ومنهجية البحث العلمي المعاصر بآفاقه اللا محدودة، وذلك من خلال إبراز الدور الذي يقوم به الإسلام في المملكة ليتعدى تأثيره النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وينسحب على تخطيط السياسة الخارجية للدولة وتنفيذها.
وعلى رغم اجتيازه للدكتوراه بامتياز إلا أن مصدر سعادته الحقيقية كان في حصول أطروحته على جائزة أفضل أطروحة دكتوراه لعام 1978 موثقة بشهادة رسمية من الجامعة وفي ذلك نجده يقول: «كانت غبطتي وسعادتي بذلك لا توصف بل لا أبالغ إذا قلت إن فرحي بالحصول على تلك الجائزة والشهادة كان يوازي ويساوي فرحي بالحصول على شهادة الدكتوراه ذاتها. لأن هدفي من الدراسة والتحصيل العلمي والأكاديمي لم يكن الحصول على الشهادة في حد ذاتها، أو الاستفادة منها في الترقية الوظيفية بقدر ما كان تنمية معارفي الفكرية والعلمية وصقل قدراتي على البحث والاستقصاء، وتوسيع آفاقي المعرفية والثقافية، ولعلي لا احتاج لكي أبرهن على ذلك إلى أن أشير إلى أنني كنت حصلت على المرتبة التاسعة في الكادر الوظيفي الحكومي، وهي المرتبة التي يعين عليها حاملو درجة الدكتوراه، قبيل إتمام دراستي والحصول على درجة الدكتوراه، ولو أنني كنت حريصاً على مجرد الاستفادة من الشهادة كوسيلة للترقية لما تجشمت عناء مواصلة الدراسة بكل ما يتطلبه ذلك من مشاق ومصاعب ومتاعب وتضحيات».
ويبدو أن أطروحة الكاتب للدكتوراه شكلت البداية للتعمق في نظريات العلاقات الدولية ومفهوم الدولة الإسلامية وعلاقاتها الخارجية وتعاملاتها الدولية، والخروج بمنظور ورؤية جديدتين حيال الوضع الراهن والأسس والهيكلة التي يقوم عليها التنظيم الدولي المعاصر، صاغها الكاتب في دراسات وأبحاث عدة، وأشار إلى أنها لا تزال حبيسة الأدراج وتنتظر الوقت الملائم للنشر. غير أنه في الوقت نفسه لم يبخل على القارئ باستعراض موجز لملامح هذه الدراسات والنظرية القائمة عليها في تلخيص مبسط يخاطب عقل القارئ بمختلف تياراته الفكرية وأطيافه الثقافية.
علاقات انسانية
الجانب الإنساني كان لافتاً في رحلة دبلوماسي طيبة العمرية، سواء في علاقاته الأسرية التي شكل والده محور ارتكازها أو في علاقاته العملية، أو في صداقاته، فجر فيها الكاتب من دون تحفظ مكنونات نفسه، وبواطن تفكيره، حتى يخيل للقارئ أن مشاعر الكاتب - وليس قلمه - خطت سطورها في صور جمالية مفعمة بالأحاسيس، وليس أدل على ذلك من الصورة البلاغية التي سردها عند مروره بالعمارة التي كان يقطن فيها عندما كان طالباً في القاهرة بعد 40 عاماً حين أصبح وزيراً للدولة للشؤون الخارجية قائلاً: «لن أنسى ما حييت ما حدث في أحد الأيام، بعد أن أصبحت وزيراً للدولة للشؤون الخارجية، حين وصلت إلى القاهرة على رأس وفد بلادي، للمشاركة في أعمال أحد اجتماعات وزراء الخارجية العرب، وبعد استقبال رسمي في المطار، تحرك الموكب الذي يقلني مع أعضاء الوفد والمستقبلين، تتقدمه سيارة حراسة تشق الطريق وسط زحام القاهرة المعهود، وحين مرور الموكب عند تقاطع شارع الجيزة مع شارع أمين الرافعي، حانت مني التفاتة نحو العمارة التي كنا نقيم فيها أيام الدراسة، وكانت لا تزال رابضة في مكانها، وإن كان اعتراها الوهن، وبدت عليها ملامح الشيخوخة ومظاهر الهرم، كما كانت محطة الوقود التي تطل عليها ما زالت في مكانها هي الأخرى، وفجأة وجدتني أعود بالذاكرة إلى نيف وأربعين سنة خلت، وتخيلت في تلك اللحظة أنني أراه خارجاً من باب العمارة متأبطاً كتبه وأوراقه ومتجهاً نحو موقف سيارات الأجرة على ناصية الشارع الذي اعتاد أن يستقل منه سيارة أجرة لتوصله للجامعة، وتخيلت أنه ألقى نظرة خاطفة على الموكب، ولكنه لم يكترث بالمنظر أو يأبه به، ودلف مسرعاً إلى سيارة الأجرة وكأن الأمر لا يعنيه في شيء، تمنيت حينئذ أن استوقفه أو استمهله قليلاً، لأسرد له ما حصل خلال الأعوام الطويلة التي انقضت منذ خروجه من العمارة في ذلك اليوم في طريقه للكلية وحتى مروري من أمام العمارة بعد مضي أكثر من أربعين سنة في طريقي لأمثل بلادي في مؤتمر وزاري، ولكنني كنت أعلم أن الوقت ضيق والقصة طويلة، وأراه في عجلة من أمره، لذلك تمنيت أن أقول له أولاً: لا أريدك أن تنزعج من رؤيتي لك وأنت تستقل سيارة الأجرة أو الأوتوبيس، ومن رؤيتك لي وأنا امتطي صهوة سيارة فاخرة تسير في موكب رسمي، فالذي يبدأ رحلة عمره في الدرجة الثالثة أو في «الترسو» على حد قول المصريين، وينهيها في الدرجة الأولى لأسعد بما لا يقاس من الذي يبدأها في الأولى وينهيها في الثالثة، وثق بأن الصعود أشق بكثير من الانحدار، ولكنه ألذ وأمتع، ولا أخالك إلا صاعداً فاتكل على ربك، ولا تيأس أو تتذمر أو تتضجر من عثرة هنا أو عقبة هناك». ويستمر الكاتب في مخاطبة شخصه الآخر، باثاً إياه شجونه وشؤونه، ومسدياً إياه نصائح عركتها تجارب الزمن ومزالقه، في محاولة لإزالة توتره وقلقه وهمه، الذي يحمله معه دائماً والخوف من العواقب.
صناعة القرار أحد الهواجس التي شغلت بال العلماء والباحثين والمسؤولين، حتى على المستوى الأسري، غير أن الدكتور نزار مدني يقدم رؤية جديدة لصناعة القرار من منظور إنساني أقرب إلى الصدق والواقعية والشفافية مع الذات، إذ يعبر عن رؤيته في سياق حديثه عن الوسيلة الفعالة لاتخاذ القرارات قائلاً: «أؤمن بأن شخصية الإنسان – في عمومه – تنقسم إلى قسمين، أو تتكون من شخصيتين، الأولى وهي التي تكمن في أعماق كل إنسان ويمكن أن نطلق عليها اسم الشخصية المستترة أو الخفية، والشخصية الثانية هي التي يعرفها الناس ويتعاملون معها في الحياة اليومية، ويمكن أن نسميها بالشخصية الظاهرة أو العلنية. كما أؤمن بأنه في داخل كل إنسان مستودعاً عميقاً من الأسرار والأفكار والميول والمشاعر والأحاسيس والأهواء والشهوات، قد يفصح عن بعضها بإرادة منه، أو من دون إرادة في بعض الأحيان، ولكن ليس شرطاً أن يكون ما يفصح عنه معبراً في واقع الأمر عن الحقيقة، لأن الإنسان قد يكذب وقد ينافق وقد يجامل وقد يخجل من قول الحقيقة، وقد يخاف من قولها، ولا يستطيع أحد حتى أقرب المقربين إلى الإنسان أن يتعمق في داخله ويسبر أغواره، وبالتالي يتمكن من معرفة حقيقة تلك المشاعر والميول والشهوات والأفكار. الوحيد الذي يعرف تلك الأسرار هو الشخص الآخر القابع في باطن الإنسان وأعمق أعماقه». وكأني بالكاتب يستند لاشعورياً في رؤيته بمنهجه الفكري الإسلامي إلى حديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم) «استفت قلبك».
وعلى رغم أن الدكتور نزار بن عبيد مدني حرص في سيرته الذاتية على سرد تجاربه الشخصية والعملية والاجتماعية، غير أن شخصية الأكاديمي والسياسي والديبلوماسي، كانت تطل بين فينة وأخرى في سياق استعراض الأحداث، ويتجلى ذلك في سرده للأحداث السياسية التي عايشها بدءاً من حرب 1967 مروراً بحرب 1973 ومن ثم الحرب العراقية - الإيرانية، فحرب احتلال الكويت، وما تلاها من الحرب على العراق وإسقاط نظام صدام حسين، وصولاً إلى أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 وما أفرزته من تحول في الفكر الدولي المعاصر وسياساته.
وقد استحوذت الحرب الأهلية اللبنانية على حيز جيد في استعراض المؤلف، بما فيها جهود اللجنة الثلاثية العربية التي وضعت نهاية للحرب وأعادت الحياة الدستورية للبنان، غير أن المؤلف أراد أن يخفف من وطأة التناول السياسي لهذا الحدث بذكر بعض المواقف الشخصية التي صاحبته، ويروي بعد انتهاء التوقيع على وثيقة اتفاق الطائف بين اللبنانيين: «لا يمكن أن أنسى أيضاً كيف كان ذلك اليوم من الأيام النادرة التي بدا فيها الأمير سعود منتشياً بفرحة الانتصار، ركبت معه في السيارة التي أقلتنا من الطائف إلى جدة لحضور الجلسة الختامية للجنة الثلاثية والتي رعاها الملك فهد، كان يقود السيارة كعادته في تلك الأيام، وكنت جالساً في المقعد الأمامي، كان الحديث منصباً طوال الوقت والتعليقات مرتكزة حول المؤتمر والمؤتمرين، ومن فرط نشوته وسعادته كان يضغط بين الفينة والأخرى على زر المسجل، فارضاً علينا الاستماع إلى شريط من الموسيقى الكلاسيكية، التي لم أكن في يوم من الأيام من عشاقها أو محبي الاستماع إليها، وكنت في تلك الأثناء أقول بيني وبين نفسي: يا حبذا لو وضع شريطاً لأغاني فيروز لكان ذلك أقرب إلى المناسبة وأدعى إلى السماع والاستماع».
سعود الفيصل... وحيز خاص
في المقدمة يشير المؤلف إلى أن كتابه لا يهدف إلى كشف أسرار وظيفية مثيرة، أو توثيق للمقابلات والاجتماعات التي حضرها. غير أن إعجابه بشخصية الأمير سعود الفيصل وحنكته السياسية وثقافته الموسوعية وقدراته التفاوضية، واعتزازه بعلاقته الوثيقة به على مدى ثلاثين عاماً، فأفرد له حيزاً خاصاً في الكتاب، كاشفاً عن أحد الاجتماعات الرسمية بين حكومتي المملكة والولايات المتحدة الأميركية ليستذكر المرة الأولى التي التقى فيها شخصياً الأمير سعود الفيصل، ففي سياق حديثه عن أحداث حرب أكتوبر 1973 وقطع النفط وجهود المملكة الديبلوماسية يروي الكاتب: «كنت قائماً بأعمال السفارة بالنيابة حينما وصل إلى واشنطن معالي وزير البترول والثروة المعدنية الأسبق الشيخ أحمد زكي يماني حاملاً معه رسالة عاجلة للحكومة الأميركية. حضرت الاجتماع الذي تم فيه إبلاغ الرسالة لوزير الخارجية آنذاك ويليام روجرز، كان فحوى الرسالة مطالبة الولايات المتحدة أن تمتنع عن انتهاج سياسة متحيزة في النزاع العربي - الإسرائيلي، وعن تقديم المساعدات غير المحدودة أو المشروطة لإسرائيل لتزيد من غطرستها وتعنتها ورفضها الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، واعتبار أن أميركا مسؤولة عن تصحيح هذا الوضع، إذ إن عدم استجابتها هذه المطالب سيجعلها تتحمل المسؤوليات والتبعات الخطرة التي يمكن أن تنجم عن ذلك، وقد رافق الوزير اليماني في تلك الزيارة الأمير سعود الفيصل، وكيل وزارة البترول والثروة المعدنية آنذاك، كانت تلك المرة الأولى في حياتي التي أقابل فيها الأمير سعود. أذكر جيداً أن مشاركته في ذلك الاجتماع كانت فاعلة في شكل ملحوظ، إذ كانت له مداخلات وتعليقات قوية ومؤثرة، ولكن، والحق أقول، لم يخطر في بالي ولو لثوان، أن هذا الرجل الذي أراه للمرة الأولى والذي لم يكن قد تجاوز الثالثة والثلاثين من عمره، سيصبح بعد عامين فقط وزيراً للخارجية، وأنه سيقدر لي بعدها بأعوام لا تزيد على أصابع اليد الواحدة أن أعمل معه حوالى ثلاثين عاماً».
مجلس الشورى كان أحد المحطات المهمة في تاريخ الكاتب الذي عاش في وجدانه العديد من المشاعر المتضاربة بين الحزن الذي خالجه وهو يغادر مبنى وزارة الخارجية للمرة الأخيرة، البيت الذي ترعرع فيه أطول فترات حياته، وبين الفرح العارم الذي كان يعتريه باختيار خادم الحرمين الشريفين له كأحد أعضاء المجلس في حلته الجديدة. يقول: «غمرني شعور طاغ بأن ترشيحي لمجلس الشورى لم يكن تقديراً لشخصي بقدر ما كان تكريماً لوالدي، يرحمه الله، الذي كان عضواً في مجلس الشورى في عهد الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، وبأنه لو كان حياً يرزق في تلك اللحظات لبات سعيداً وفخوراً بابنه الذي أحيا ذكراه وسار على نهجه وخطاه».
بعد رحلة طويلة مليئة بالمتعة، محفوفة بالمشاق، مفعمة بالإثارة، اطمأن إلى وصول سفينته إلى بر آمن، ورغب في حياة مطمئنة وسط أسرته بعيداً من مسؤوليات العمل. ولم يكن لديبلوماسي طيبة أن يتخذ مثل هذا القرار من دون استئذان الأمير سعود الفيصل والحصول على مباركته، خصوصاً أن عضويته في مجلس الشورى لم تلغ ارتباطه الوظيفي في وزارة الخارجية. وكانت المفاجأة إفصاح الأمير سعود عن رغبته في تعيينه في منصب مساعد وزير الخارجية بمرتبة وزير، ويصف الكاتب هذا الحدث بعد خروجه من منزل الأمير سعود «واعجباه! كل ذلك يتم في نصف ساعة، ثلاثون دقيقة فقط تغير مجرى حياتي وتبدله من حال إلى حال ومن وضع إلى وضع، وتنقلني إلى أجواء مخالفة تماماً للأجواء التي سبقتها بدقائق معدودة، انحصر كل ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظات في حقيقة واحدة لا مناص من التسليم بها، وهي أننا مهما خططنا لحياتنا أو اتخذنا من قرارات في شأن مستقبلنا فإننا نبقى في النهاية محكومين بما قدر الله لنا».
أعقب ذلك تعيين الكاتب وزيراً للدولة للشؤون الخارجية ليستعرض بذلك طبيعة وحجم المسؤوليات الملقاة على عاتقه في هذه المرحلة، ولعل أبلغ وصف لهذه المرحلة ما أشار إليه الكاتب في محطته الثانية عند بداية تقلده للوظيفة الحكومية «أن الحرية بالاستمتاع بأوقات ما بعد الدوام الرسمي، هي الميزة التي أخذت أحرم منها كلما ارتقيت إلى الأعلى في السلم الوظيفي، وكلما زادت المسؤوليات وتراكمت الأعباء والمهمات وتعددت القضايا والمواضيع، وكلما أصبحت الخيوط التي تفصل بين أوقات الدوام، وأوقات خارج الدوام واهية وضعيفة، زالت الفوارق بين عمل النهار و مسؤوليات الليل، وبين متطلبات المكتب وواجبات المنزل ».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.