أدركت بلادنا منذ وقت مبكر أهمية مؤسسات المجتمع المدني، تلك التي تبدأ من وعي المجتمع وإرادته بلا وصاية داخلية أو خارجية رسمية كانت أو غير رسمية، فمؤسسات المجتمع المدني لا يمكن أن تنبت إلا على ضفاف النوايا الحسنة منزوعة الاختلافات الإثنية والقبلية والطائفية، إذ سينصهر الجميع في بوتقة عمل طوعي واحد في مختلف المجالات الصحية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وتتخذ لها مسميات وتوصيفات متنوعة لا تبعدها عن فحوى النشاط المناط بها. فتارة تحمل مسمى نقابة وأخرى جمعية ومرات اتحاد ومؤسسات وغرف إلى آخره من المسميات، إلا أنها تتفق في ما بينها على انحسار نشاطها على المجتمع بكل أطيافه - وكما أسلفنا - بعمل طوعي حر مفرغ من الاستقطابات السياسية والجهوية والطائفية والعرقية، وهذا سر صدقيتها في تبني قضايا الناس من دون تمييز والمطالبة بحقوقهم السياسية والاقتصادية مع ضمانات الحرية الكاملة في التعبير عن كل الحاجات التي يفتقر إليها المجتمع، متخذة كل الوسائل الكفيلة بتحقيق طموحات الشعب لتتحول في حالة استكمال بنيتها الفكرية والتنظيمية إلى صوت لهم يرفع إلى الجهات الرسمية، وهذا بدوره يسهم في تشكيل قنوات إصلاحية لا تثقل كاهل الدولة بالكثير من المتطلبات لتحقيق غاياتها، هذه الجمعيات المدنية ستكفيها مؤونة تقصي حاجات الوطن الخدمية، خصوصاً التي تصب في مصلحة الفرد بدرجة أولى؛ هذا الفرد الذي ذهب صوته في مهب الرياح جراء سلطة الأنظمة البيروقراطية المنغلقة على ذاتها. والآن سأعود إلى مبتدأ المقال لتأكيد ما ذهبت إليه من أن بلادنا عرفت مؤسسات المجتمع المدني منذ قرابة 90 سنة، وتحديداً عام 1924، وهذا التاريخ لبدايات نشوء المجتمع المدني السعودي ليس تخميناً أو تمريراً مجانياً لتأكيد ما أود قوله، بل هو واقع تاريخي حقيقي قام برصده الصديق محمد القشعمي في كتابه الصادر أخيراً عن دار فراديس بعنوان «بوادر المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية»، وكنت أتمنى لو أضاف إلى العنوان عنواناً شارحاً على نحو «البدايات والتحولات»، قادنا من خلال رحلة بحث وتنقيب مضنية بين أوراق الصحف الصفراء الباهتة لبراهين ودلائل تؤرخ للحياة السياسية المتنفسة بمدنية البدايات، أعني بدايات تأسيس وطننا الكبير، ما يوثق أسبقيتنا في هذا المضمار. كان ذلك عندما التقى «السلطان عبدالعزيز» بعلماء البلد الحرام للتشاور في الشكل الذي ينبغي لإدارة البلاد عام 1924، ليضع لهم تصوراته عن طبيعة المرحلة المقبلة، ويقدم وعيه الذي سبق به السلف وأعجز الخلف. يوم ذاك طلب منهم رحمه الله وأسكنه فسيح جناته أن يجتمع نخبة من العلماء ونخبة من الأعيان ونخبة من التجار، وينتخب كل صنف عدداً معيناً يرضون به، وذلك بموجب أوراق يمضونها ليقوم هؤلاء بتسلم زمام الأمور، يختلون بأنفسهم أوقات معينة يقررون فيها مصالح البلاد والعباد، وليكونوا الواسطة بين الناس والسلطان، هذا الوعي والإدراك لسياسي محنك يستبطن الأمور، ويضع لها التصورات والآليات في وقت لم تبلغ الرؤى مداها، جلالة المغفور له بإذن الله تعالى ختم كلامه قائلاً: «أما أنا فلا أريد من هذا المجلس الذي أدعوكم لانتخابه أشكالاً وهمية، إنما أريد شكلاً حقيقياً يجتمع في رجال حقيقيين يعملون جهدهم في تحري الحقيقة». ثم قال رحمه الله: «لا أريد أوهاماً، إنما أريد حقائق، أريد رجالاً يعملون، فإذا اجتمع أولئك المنتخبون وأشكل عليّ أمر من الأمور رجعت إليهم في جلسة وعملت بمشورتهم، وتكون ذمتي سالمة والمسؤولية عليهم، وأريد منهم أن يعملوا بما يجدون فيه المصلحة وليس لأحد – من الذين هم في طرفي – سلطة عليهم ولا على غيرهم». القشعمي أوقفنا على مشارف تحولات عصرية تاريخية، كانت ستنقل بلدنا إلى آفاق أرحب، فيما لو تسنى لرؤية المغفور له الملك عبدالعزيز العملية الاستمرار مع كوكبة من أبنائه البررة وثلة فطنة من مثقفي ذلك العصر. أقول: لو تحققت استمرارية ذاك التوجه لتجاوزنا كل المشكلات التي تعاني منها مؤسسات المجتمع المدني المستحدثة اليوم. آنذاك دشنت فعاليات مؤسسات المجتمع المدني بنقابات الحرف والصنائع عام 1931، كان ذاك يوم اصطف الصناع والحرفيون مهنئين بعيد جلوس جلالة الملك المعظم عبدالعزيز - غفر الله له - تتابعت بعدها هذه النقابات والجمعيات والاتحادات منتظمة في سياقات واعية، فمن انتخابات أعضاء مجالس البلديات في مكة عام 1951 إلى الدمام عام 1955 وقريباً منه الظهران والقطيف، وكان وازعهم في ذلك أيضاً الخطاب الملكي الكريم الذي افتتحت به أولى دورات مجلس الوزراء في الرياض المتضمنة ضرورة إشاعتها في كل مدينة من مدن المملكة، وانتقلت حمى هذه الانتخابات إلى الغرف التجارية التي أفلحت بوصفها جهة تمثل ذاتها اقتصادياً ومالياً إلى إعمال الحج وخدمة حجيج بيت الله والطوافة، ومنها إلى السماسرة والدلالين. أما الدعوة إلى إنشاء نقابة للصحافيين التي لم تر النور إلا متأخرة فدشنها الشيخ حمد الجاسر رحمه الله عام 1959. قدم لنا القشعمي أيضاً بين دفتي كتابه الثمين كيف تشكلت العديد من النقابات والاتحادات لاحقاً، منها نقابة العمال ورابطة طلاب جامعة الملك سعود وانتخابات اللجان الرياضية وانتخاب أعضاء المجلس البلدي في الرياض للمرة الأولى عام 1964، ذاك التي دعت له إمارة مدينة الرياض في بيان صادر منها كتب بلغة مشحونة بالتطلع. أخيراً، وبعد مضي قرابة 90 سنة على كلمات الملك عبدالعزيز القائد المحنك، كيف يمكن لنا أن نقوّم طبيعة المراحل المتعاقبة من بعده على مستوى مؤسسات المجتمع المدني؟ أملنا معقود بقائد نهضتنا الحديثة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، الذي بدأنا نتلمس في عهده بوادر عودة حميدة وصادقة لمؤسسات المجتمع المدني. * كاتب وروائي سعودي. [email protected] @almoziani