تبدأ أصوات في الحديث وثمة مشادة كلامية، من دون أن يتبين المشاهد أصحابها. تستمر المشادة التي نفهم منها أن شخصاً قام بقطع الكهرباء، بناء على أوامر، ويشير هذا الشخص (عبد العزيز أبو صفية) الموظف بشركة الكهرباء، إلى أن ما يقوم به جزء من مهامه. لقد بات الظلام مهمة في غزة، وعبد العزيز أبو صفية مهمته قطع الكهرباء عن بعض المناطق وإعادتها لمناطق أخرى، وفق جداول لتوزيع الكهرباء على القطاع. هكذا يبدأ فيلم «حياة بالجدول» مشاهده في الظلام التام، وبعضها في إضاءة خافتة، تلك الطريقة المتعارف عليها في إضاءة المقابلات التلفزيونية، حيث عمد أشرف مشهراوي لمحاكاة الواقع، فكانت مقابلاته بين ظلام دامس أو إضاءة الشموع في الليل، أو ضوء النهار المبهر... هذا التناقض الذي يكشف عن عمق الأزمة التي يعيشها الفلسطينيون في غزة. يبدأ مشهراوي مشكلة الفيلم من فعل الظلام، حيث لا شيء واضح سوى شكوى وانزعاج من المواطنين، وصراخ أطفال يخشون الظلام، ليبدأ الكشف عن الأزمة عبر لقاء في ضوء ساطع مع سهيل سكيك مدير شركة توزيع الكهرباء بقطاع غزة، حيث لا يمكن الكذب في الأرقام، فتبدو لغة الأرقام حقيقة مجردة، تكشف عن هزلية الاستخدام الكلي لقطاع غزة من الكهرباء مقارنة ببلدان أخرى في المنطقة، وعلى رغم أن كل احتياجات قطاع غزة من الكهرباء هي 300 ميغاوات، أي ما يعادل 1 في المئة من استخدام الكهرباء في مصر على سبيل المثال، فإن هذه النسبة الضئيلة لا يتم توفيرها، خصوصاً بعد أن استهدفت إسرائيل محطة توليد الكهرباء في القطاع عام 2006، بل الأكثر من ذلك أن إسرائيل تستخدم الكهرباء كسلاح ضد أهالي غزة، وهو ما عبر عنه كنعان عبيد رئيس سلطة الطاقة في قطاع غزة قائلاً: «الكهرباء سوط في يد إسرائيل تنتقم به متى شاءت». يكشف الفيلم عن عمق مشكلة الكهرباء، حيث إن الأمر يخرج عن فكرة الإضاءة إلى فكرة الحياة بشكل عام، فغزة التي تعاني من عدم وجود مياه صالحة للشرب، وفق تصريح مسؤوليها، لا يمكنها عمل أي مشاريع لتحلية مياه البحر، لأن أي مشروع يحتاج الكهرباء وإلا لصار مجرد بناء هلامي، ومشكلات مياه الشرب والصرف الصحي كلها تتعلق في شكل أساسي بالكهرباء، حيث لا يوجد ما يكفي من الكهرباء لمحاولة حل هذه المشكلات. الأمر يصل أيضاً إلى المستشفيات، التي لا تجد حاجتها من الكهرباء، بما يهدد بكارثة إنسانية طوال الوقت. وثمة إلى هذا عدد آخر من المشكلات بني على نقص الكهرباء، فقد ظهرت ورش تصليح المولدات البديل التقليدي عن غياب الكهرباء، حتى أن غزة فيها الآن قرابة ألف وثمانمئة مصلح مولدات كهرباء. هذه المولدات لها مشكلاتها الخاصة، فكثير من العراك يدور بين الجيرة بسبب المولد، وكم من مصلح نزل للعمل بعد منتصف الليل حين يهرع رب أسرة إليه بعد أن فسد مولده، فالمولدات تعمل ما يزيد عن ثماني ساعات يومياً وهو وقت كاف لإتلافها وتقصير عمرها. ليست الشجارات هي المشكلة الوحيدة الناتجة عن استخدام المولدات، بل هناك الحرائق التي تشتعل إثر عطل في المولد، حيث تتحدث آمنة برغوث عن فقدها طفلين من أطفالها إثر حريق في بيتها بسبب المولد، ودخول طفلين آخرين الى العناية المركزة، أما صابرين ديب ففقدت زوجها إثر ماس كهربي بسبب المولد. الحزن شريك ملائم جداً للظلام، حيث يستدعي الإنسان تفاصيل أحزانه ونكباته ولا بديل لتداعي الحزن واستدعاء الدموع، فجاء صراخ طفل في الظلام كإشارة إلى خوف الأطفال، بينما عبرت دموع صابرين عن الفقد والحزن، تلك الرسائل التي استهدف أشرف مشهرواي إيصالها عبر الفيلم، الذي كان الظلام يمثل الجانب الأكبر من مشاهده، وكانت أدوات الإضاءة المستخدمة هي الشموع، وأضواء السيارات. اختيارات مشهراوي الجمالية جاءت متوافقة مع محتوي الفيلم ورسائل المخرج التي يرغب في إيصالها للمشاهد، لم يتدخل مشهراوي أو فريق إعداده سوى في مقابلة مع مسؤول مصري في قطاع الكهرباء، حيث يرى المسؤولون في غزة أن حل المشكلة أن تنضم غزة لمشروع الثماني الإقليمي، حيث تمد مصر عدداً من دولة المنطقة بالكهرباء، وعبّر المسؤول المصري عن جاهزية الوزارة للبدء في المشروع، كما عبر المسؤول الفلسطيني عن الجاهزية ذاتها، ليكشف بعد ذلك عبد الحليم قنديل (أحد رموز المعارضة المصرية) أن تنفيذ المشروع يرتبط بالقرار السياسي، وأنه ليس له علاقة بالبنية التحتية في غزة. يعمد مشهراوي دوماً إلى الرسائل غير المباشرة، فهو في أفلامه يقدم رسائله عبر صورة ومحتوى، هو لا يتحدث عن بؤس الحياة في غزة، لكنه يعرض الظلام، وصراخ الأطفال، ودموع الأرامل، والأمهات التي فقدت أطفالها، ومشاجرات مع موظف الكهرباء الذي يقوم بالفصل. هو كذلك لا يتحدث عن تصريحات لمسؤولين، وإنما يعمد في مونتاجه إلى الكشف عن توالي المشكلات، حيث يمكن المشاهد أن يكون وجهة نظره الخاصة، ويحدد موقفه الذي يريده المخرج، وهذا ما يمكن وصفه بوعي المخرج وتمكنه من أدواته على مستوى الصورة، والمحتوى، والتوليف. لكنه يخلق حالاً من الأمل، وعلى رغم الموسيقى الحزينة التي قصد أن تكون خاتمة فيلمه، جاءت موازية لمشهد الأطفال يلعبون في الظلام، ثم في إضاءة خافتة، هناك بعض الرسائل الرمزية التي يقدمها مشهراوي في مشهده الأخير، فصوت لهو الأطفال العالي تلازمه موسيقي منخفضة بحيث ترتفع الموسيقي تدريجياً ويخفت صوت لهو الأطفال، حتى كلمة النهاية، هل هذه الرمزية تشير إلى أن في الأطفال الأمل على رغم انقطاع الكهرباء، وأنهم استطاعوا اللهو والاستمتاع رغم الظلام، أم أنه عمد إلى أن الأطفال الفلسطينيين قهروا خوفهم من الظلام، وباتوا يمارسون طفولتهم ولهوهم؟ هي تساؤلات يقدمها مشهراوي في خاتمة فيلمه الذي بلغت مدته تسعاً وأربعين دقيقة.