قدّر لجيل من لبنانيي الإغتراب في كندا، أن يولد ويترعرع على غير أرضه، وأن يبلغ الفطام على غير صدر أمه، وأن يشتدّ عوده في ظل عادات وقيم وثقافة ولغات لم يكن له فيها أي خيار. إنها مشيئة الأهل لحظة قرار إتخذوه على عجل في ظروف كانت بارقة الأمل بالنجاة أثمن من كل شيء. وخشية أن يستبدّ التغريب بأبنائهم، لم يدخر الآباء مناسبة أو فرصة صيفية الا ويحرصون على تذكيرهم بوطنهم الأم ويلحون عليهم بزيارته ولو لمرة واحدة. وفي ظنهم أنهم يصيبون أهدافا ثمينة، ربما رحلات أخرى قد تمهّد لعودة نهائية اليه. إلا أن فرحة الأهل سرعان ما بددتها «صدمة» أبنائهم حيال كل ما شاهدوه وما سمعوه، وزعزعت أي أمل بنهوض الوطن وقيامته. فلبنان «وطن الإشعاع والنور»، وبلد الإنسان والتحرر والإنفتاح، ووطن الكفايات وتكافؤ الفرص، يقول عنه وليد مصطفى (يدرس إختصاص العلوم السياسية والإقتصادية) أنه «مجموعة من قوى المال وزعماء الطوائف والمذاهب والأحزاب تتحكّم في خيراته وموارده ومصالح أبنائه. وهذا هو الإنطباع السائد لدى الغالبية». وعن فرص العمل للراغبين في العودة إلى ربوعه والإستقرار فيه، «فحدث ولا حرج» بحسب نعيم سلمان الذي يحمل إجازة في علوم الكومبيوتر والإتصالات. فقد لمس بالمعاينة اليومية أن «نظام العمالة في لبنان مقفل وغير قابل للإختراق مهما أوتي الواحد منا من علوم ومعارف وخبرات». ويضيف: «المعايير التقليدية لا تزال هي هي: وساطات، شفاعات، محسوبيات وكوتا لهذا الفريق وأخرى لذك وهكذا دواليك». ويعلّق زميله فادي عوض (ماجستير في العلوم الإدارية) الموظف في أحد مصارف مونتريال، قائلاً: «الأنكى من ذلك أن مسؤولين يتوافدون إلى كندا بين حين وآخر يقرعون أمامنا أجراس العودة؟!». وبعيداً من هموم السياسة والعمل، ثمة من لاحظ ميلاً جارفاً لدى لبنانيين كثر للهجرة إلى كندا أو غيرها من البلدان وبأي ثمن. فأينما حللت تتكرر أمامك المعزوفة ذاتها، الهجرة، الهجرة. وأكثر ما يتناهى إلى مسامعك أن فلاناً يحضّر أوراقه، وآخر قدم طلباً إلى السفارة الكندية، وغيره ينتظر جواباً. أما رحلة الراغبين بالهجرة فلا تنقطع وعلى أبواب السفارة يعدون بالمئات». من جهتها، لاحظت لميا نعمة (تحمل شهادة في البيوكيمياء ومسؤولة في مختبر) أن مسألة الحصول على الجنسية الكندية أو أي جنسية غيرها «أمر يسيل له لعاب كثيرين لا سيما الأهل الذين غالباً ما يربطونه بزواج بناتهم نتيجة حال الكساد وزيادة العرض على الطلب». وفي إطار تلك المشاهدات والإنطباعات المؤلمة، ثمة من وقعت عيناه على مفارقة إجتماعية صارخة لخّصتها سناء عيسى (سنة ثالثة طب) بقولها أن «قلة من اللبنانيين يعيشون في حال مفرطة من البذخ والتبذير تتجلى في تشييد فلل وإقتناء سيارات فخمة والمفاخرة بالسلطة والجاه والمال والخدم والحشم والمرافقين، في المقابل كان الله في عون الغالبية الساحقة». لكن بعيداً من هذه الإحباطات والهواجس الأمنية والسياسة والطائفية والمذهبية والبطالة، إحتفظ زوار مغتربون بصورة عن لبنان الآخر، لبنان التراث والجمال والشمس والقمر والبحر والكروم والسهر والكرم والضيافة والمروءة. فغادروه وفي أعينهم دمعة حراء، عين عليه وأخرى على وطن بديل إلى أن يقدّر الله أمراً كان مفعولاً.