لا أقف أمام المرآة في الصباح قبل أن أخرج إلى عملي، فدمشق اليوم مدينة داعشية من دون داعش. لأصل إلى عملي عليّ أن أجتاز خمسة حواجز، وبعد أن تعلمت خفض الرأس، وأصبحت خبيرة في رسم ابتسامة «غبية» عند كل حاجز، أتقنت التصرف الأهم «لا مكياج، ثياب فضفاضة، ضحكة مخنوقة، ألوان قاتمة»، وكل ما سبق ما هو إلا شيفرة المرور على حواجز شبيحة وعساكر النظام السوري في دمشق وما حولها. «دمشق وما حولها»، الجملة الرمضانية السورية السحرية في ما مضى، «دمشق وما حولها» تفطر عند أذان المغرب الذي يصدح من المسجد الأموي وتنقله إذاعة دمشق والتلفزيون السوري، «دمشق وما حولها» اليوم تنتهك كل الحرمات بحواجزها. يقف التاكسي عند الحاجز الأول، يتقدم العسكري بملل واضح «هات وراقك»، كل ما أفعله أنني أبتهل لله أن لا يراني أحد العساكر أو الواقفين على الحاجز. أدير وجهي بأكمله إلى الشباك، وألتصق بجدار التاكسي، أتحسس أنفي «الذي طالما تفاخرت بجماله» ولكنني في هذه اللحظات أكره شكله المتقن، أعض على شفتي المكتنزتين «بلا أي سيليكون» وأفكر بيني وبين نفسي «يا ريتني ما بشبه ماما، أكيد كنت أقل حلاوة وأقل خوفاً». أشبك يديّ وأشد عليهما بتوتر حتى تغرز أظافري بيدي، لا مانع عندي من أجرح يدي وأتذكر يوم طلب مني صديقي طالب الفنون رسمهما لشكلهما المميز، واتساءل «ما المميز فيهما» وأعود لأطمئن نفسي «هؤلاء الواقفون على الحاجز لا يمتلكون نظرة صديقي الفنان ولن ينتبهوا لتفاصيل أصابعي المغرية للرسم». أعيد تفقد قميصي، أغلقه حتى الزر الأخير، أتأكد من أن ظهري لن ينكشف إذا ما طُلب مني النزول، وأكره بنطالي الجينز «الذي أحب» وأفكر بتفاهة إصراري على شراء بنطال ضيق «لن تنفعني الموضة على الحاجز، ستكون وبالاً آخر عليّ، سيهتمون بمراقبة تفاصيل جسدي مرة أخرى، سأشتري بنطالاً واسعاً اليوم». يأمر الحاجز سائق التاكسي بالتوقف جانباً، ويطلب هويات الجميع، يتوقف عند هويتي ويقول «انزلي» فأنزل بلا أي كلمة أو اعتراض. أقف مطأطأة الرأس أنظر إلى الحافلة التي أنزلتني وتابعت طريقها، تقف على بعد أمتار مني فتاة أخرى محجبة أتساءل إن كانت مع الثورة، وأعود للتفكير «ما المهم أن تكون مع الثورة... تساعدني فكرة الثورة ودرجة كرهي للنظام بأن أرى كل تصرفاتهم غير البشرية عادية ومقبولة». يقف ثلاثة شبان على بعد أمتار لا ينظرون إلى بعضهم «أكيد هم مع الثورة وإلا لما كانوا واقفين هنا الآن، أعتقد أن صاحب العيون الخضراء الواسعة من حمص وهي تهمة كافية بالنسبة الى أي حاجز، أعتقد أن ذلك الأسمر من درعا، تهمة كافية أيضاً»، أحاول الاقتراب من الفتاة فتنظر إلي بقسوة وتأمرني ألا أحاول النظر إليها «معها حق، كل واحد عليه بنفسه» أعود لخفض رأسي والتأفف من الحر الشديد. نصف ساعة أخرى تمر، لا يكلمني أحد، تدخل الفتاة إلى «المحرس» وتخرج من دون أن يحمل وجهها أي تعبير، تركب في أول تاكسي يمر من الحاجز، أتمنى أن ينادوا باسمي، واقسم آلاف المرات أن أترك العمل وأجلس بالبيت، وأتذكر أختي واتصالاتها الكثيرة لإقناعي بمغادرة سورية، أبذل قصارى جهدي لمنع الدمعة من النزول. أدخل إلى المحرس يتسلون قليلاً بالتهكم، يتضاحكون، لا يلمسني أي منهم، ولكنني وبينما أبتسم رداً على نكاتهم، أشعر أنهم يغتصبونني جميعاً. «اسمك، وين رايحة، بتحبي سيادة الرئيس، شايفة الإرهابيين... وترهات كثيرة أخرى». إنه الحاجز الأول فقط، وإن لم يتكرر نزولي ووقوفي وابتساماتي لنكاتهم 4 مرات، فسأكون محظوظة، وإن لم يلمسني أحد اليوم فربما يحدث غداً.