تمشي السيارة ببطء مغيظ. بخاصة لمن ينتظر الوصول إلى دمشق بلهفة. إلا أن لا سبيل أمام السائق للإسراع. المسافة التي تفصل الحواجز الثمانية بعضها عن بعض لا تكفي للإسراع. الحواجز كانت أقل عدداً قبل ثلاثة أشهر. كما أنها كانت تقتصر على بضعة عساكر وضابط يقطعون الطريق كيفما اتفق. كانوا يقفون على طرفي الطريق ويلوّحون بضوء في عتمة الليل كي يراهم سائقو السيارات المسرعة على الأوتوستراد العريض. تقف السيارات وليس من الصعب أن نعرف، أن معظم السائقين وعائلاتهم وركابهم، ترتعش قلوبهم قبل كيلومترات من وصولهم الحاجز. وهذا الخوف لا ينتمي إلى هذه المرحلة تحديداً. لطالما تكرّس في لاوعي «المواطن» السوري، أنه مدان إلى أن تثبت براءته. ثمة دونية تكبّل السوري أينما حلّ. البعض كان يخجل ولا يزال من ممارسات النظام السوري وقواته ورجال أمنه في لبنان مثلاً، فكان يشعر بتلك الدونية، باستثناء شريحة صغيرة من المستفيدين من تلك القوة الطاغية التي حكمت البلدين بحذاء عسكري على مدى عقود. السوري مدان إلى أن يثبت العكس. في الدوائر الحكومية، يمكن ال «مواطن» أن يمرّر الوقت ويتسلّى بمراقبة الناس. مدهشة نظرات التوسّل التي يحدّقون بها إلى الموظفين. إذ لا بدّ أن يفاجئك الموظف بورقة ما نسيت إحضارها ما سيؤخر المعاملة أياماً أو أسابيع إضافية. اليوم، تفصل بين الحدود السورية - اللبنانية والعاصمة دمشق ثمانية حواجز. شكلها لم يعد اعتباطياً وموقتاً. ازداد عدد العناصر التي تقف أمام الحاجز ووراءه وعلى أطرافه. وقد نبت على حافة الطريق بالقرب من كل حاجز، بيت قيد الإنشاء. يبدو أن بيوت الحواجز الثمانية تصعد بشكل متساوٍ، بحيث لا يسبق أحدها الآخر. البيت جدران. والجدران استقرار. أي أنهم من جهة فقدوا الانطباع بأن الأزمة انتهت، ومن جهة أخرى لديهم يقين بأنهم باقون إلى أجل غير مسمّى. يقول السائق مازحاً: «اليوم نرى أحجار الباطون تعمّر جدراناً، غداً سنرى غرفاً، وبعد غد ستتحول الغرف إلى قصور صغيرة فيها كل وسائل الرفاهية الممكنة من «جاكوزي» وشاشات تلفزيون كبيرة وكابل». لكن ال «ساتيليت» لن يلتقط بالتأكيد أي محطة «عدوة». وهذا واقع غير مبالغ به. العساكر في مهماتهم يمنعون من الاتصال بأهلهم ومن مشاهدة محطات غير «الدنيا» و «الفضائية السورية» و «المنار». حتى الضباط الكبار لا يتجرأون على توليف محطات أخرى «تحريضية». أو أنهم بكل بساطة لا يعرفون. يحكى أن عسكرياً شاباً استطاع الحصول على إجازة ليومين لزيارة أهله بعد غياب طال سنة تقريباً. وعندما سأله أهله عن كيفية حصوله على الإجازة، ردّ بكل بساطة: «ولّفت قناة «العربية» للمعلّم!». (المعلّم حسب القاموس السوري المعتمد تبدأ برئيس الجمهورية والضابط المسؤول في الوحدة العسكرية، وتنتهي بصاحب ورشة بناء أو صاحب مطعم فلافل مثلاً). مقابل تلك الديمومة التي أخذت تتوطن عند الحواجز، ثمة ضجر من نوع غريب. يرى العابر مثلاً، أكياس الرمل تتكوم بعضها فوق بعض كيفما اتفق. يعتليها القسم السفلي من «قنينة» مياه بلاستيكية من نوع «بقين»، تملؤه مياه مغبرّة، وتخرج منه زهرة حمراء كبيرة، لا يصعب على من يراها أن يعرف أنها اصطناعية. الماء إذاً للزينة فقط. إلى جانبها، أيضاً على أكياس الرمل، صورة الرئيس بشار الأسد، مائلة تماماً، على وشك السقوط على الأرض من دون اكتراث. مثلها مثل الماء الذي يملأ القنينة، لا فائدة منه، للزينة. الصورة أيضاً، لم تعد أولوية هؤلاء العساكر الواقفين منتصف الطريق، بملامحهم العابسة والكئيبة التي لا تخلو من الشراسة. وكأن الحاجز ليس لحماية الشخص المختبئ وراء زجاج الصورة المائلة. وكأن القضية قفزت عنه. فاقت أهميته. لم يعد يعنيهم بقاؤه بقدر ما يعنيهم بقاؤهم. تبدّل مفهوم البقاء خلال الأشهر الماضية: لم يعد مقترناً ببقائه. في المقابل، لا يخفى على أحد أن بقاءهم مرتبط بما يرتكبونه من جرائم وترويع. وأفكر دائماً بتلك الملامح المرسومة على وجوههم: كم سيحتاجون من الزمن للتخلص منها! حاجز آخر يرتدي عناصره كنزات سوداء بأكمام قصيرة طبعت عليها صورة الرئيس بزيّه العسكري. تلك الكنزات أيضاً، تنتمي إلى الرؤية ذاتها: الصورة المائلة. يبدو أن للكنزات كلها مقاساً واحداً. تارة ينتفخ وجه الرئيس مع انتفاخ كرش العسكري البدين، وتارة يبدو وجهه مجعلكاً على صدر عنصر أمن نحيل. خرجت الصورة إذاً من إطارها المقدّس. صارت مطبوعة على أجساد العساكر. يملؤها الغبار والعرق والبصاق ربما. حاجز ثالث، لا صورة مائلة ترتخي فوق أكياس الرمل المتراصّة فوق بعضها البعض. وصورة تتجعّد وتتمدّد على كرش أحد العساكر. بل صورة معلقة على عمود الكهرباء الفضي منتصف الطريق. الصورة للرئيس بزيّه العسكري أيضاً وقبعته العسكرية ونظارته ال «راي بان» السوداء التقليدية. الصورة الكبيرة، يكسوها الغبار. أحد العساكر، بدل أن يمسح عنها الغبار، مرّر إصبعه فوقها وكتب على وجه الرئيس بخطِ مائل ومرتبك: «منحبك يا كبير»... أيضاً يبدو الأسلوب غريباً بعض الشيء. تصبح الصورة كالسيارة المتسخة التي يكتب فوقها مارّون في مقتبل العمر كلمات حب أو يرسمون قلوباً وأسهماً وأشياء أخرى. أيضاً يبدو أن العسكري الذي كتب بإصبعه تلك العبارة، يشعر بأنه باقٍ هناك طويلاً. وبالتالي ما النفع من مسح الصورة وتنظيفها إن كانت ستتسخ غداً وبعد غدٍ وفي الأيام والأسابيع والأشهر وربما السنوات القادمة! عندما يتأمل المراقب كل تلك الصور، تلك الحواجز، الملامح وما ترمز إليه، يكتشف أن الصورة فقدت سلطتها. وأن عناصر الأمن والجيش المتأهبين بأسلحتهم أمام الحواجز وفي الأزقة والأحياء، باتوا أكثر قوة من صاحب الصورة. السلطة التي اكتسبوها من رئيسهم، تعدّته وفاضت عن منصبه. يبدو أن الرئيس الشاب، لم يعد يحميهم كسلطة أو كطائفة. وربما سيتهمني البعض بالتطيّر لأنني أربط بين «ثقافة» الصورة الجديدة المتداولة وبين ما حدث في مدينة القرداحة قبل أسبوعين تقريباً. لكنني مثل كثيرين، أرى أن الرئيس فقد جزءاً كبيراً من شعبيته حتى عند الموالين له. إذ ما نفع رئيس لا يعرف الحسم؟ ما نفع شاب لم يرث عن أبيه القوة العسكرية والسياسية التي أطاحت بالإخوان المسلمين بداية الثمانينات وقضت عليهم وبثت الرعب في أوصال كل تلك المنطقة الممتدة من حماة إلى إدلب وحلب. ما نفع رئيس لم يعرف حتى الآن كيف يتخلص من «العصابات المسلحة» و «الجماعات الإرهابية» و«المؤامرة الكونية»؟ والأنكى أن الرئيس الشاب لا يقف وحده في وجه هذه المصائب والكوارث. تمسك بيده إيران، «أقوى دولة على وجه الأرض» كما أعلنها محمد أحمدي نجاد في شهر نيسان (أبريل) من عام 2008، أثناء استعراض للقوة الجوية العسكرية التي تمتلكها بلاده. أما اليد الأخرى، فتمسك بها روسيا، ثاني أكبر دولة مصدّرة للأسلحة في العالم. وحزب «الممانعة» الذي قضى على «أسطورة» الجيش الإسرائيلي الذي لا يهزم. كل تلك القوى الفتاكة مجتمعة لم تستطع بعد مرور أكثر من سنة ونصف السنة على بداية «المؤامرة»، أن تقضي عليها أو تخفف من انتهاكاتها! أمام المعارضة تحديات كثيرة بالتأكيد. أبرزها الآن: كيفية التخلص من النظام أولاً، ثم كيفية التخلص من النظام البديل الذي بدأ ينشأ ويترعرع وتتضح معالمه وملامحه أمام الحواجز وفي الحارات الضيقة ووراء الجدران.