ليس هوساً بانتخابات فرنسا، رئاسية أو اشتراعية. إنه دليل آخر على الانحياز إلى معادلات التأثير والتأثر بين باريس ومراكز نفوذها التقليدي في شمال أفريقيا، ما يدفع النخب المغاربية إلى الالتصاق بالحدث الفرنسي إذ يميل الناخبون يساراً أو يميناً. لا تبدو الصورة ملبدة إلى هذا الحد في عصر الانفتاح، منذ استبدل الصراع بالتفاهم لتصحيح ما علق بالذاكرة من مآسي الزمن الاستعماري الذي مضى. فقد أصبح مقبولاً ومطلوباً أن تنحو العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في اتجاه ردم هوة النفور والتباعد. وكما أن تاريخ المجتمعات الإنسانية في جوهره تاريخ تفاعل بين الدول والشعوب والحضارات، فإن أحداً لم يناهض تدريس اللغة الفرنسية في أعرق الجامعات المغاربية، وكان أقرب إلى رواد حركات التحرير مخاطبة الرأي العام الفرنسي باللغة التي يفهمها، من دون أي مركب نقص أو استعلاء. وزاد في جدلية الانفتاح أن فرنسا لم تعد وحدها تحتكر ميادين التجارة والثقافة وتبادل المنافع. التفاعل على شيء والانجذاب الذي يكاد يطمس معالم الشخصية شيء آخر. من المفيد أن تكون للعواصم المغاربية استقراءات وخلاصات إزاء السياسة التي تتهجها باريس، كلما غير قصر الاليزيه روحه وموعده ورؤيته. فالعلاقات قائمة بين الدول وليس الحكام الذين يضمن المؤكد أنهم يضعون بصماتهم على كل مرحلة ويوجهون الأحداث مثل ربابنة البواخر. فالفرنسيون أيضاً يقيمون درجات أحوال الطقس في البلدان التي يرتبطون معها بعلاقات أكثر من عادية، مع فارق في تقديرات نضج الديموقراطية شمالاً وجنوباً. بيد أن باريس كمركز استقطاب مغاربي فرضته التطورات التاريخية والسياسية وأنواع الارتباطات القائمة تغير حكامها ولا تغير أهدافها. حتى الأساليب والرؤى التي تكون مختلفة بين اليمين واليسار في التعاطي مع القضايا الداخلية لا تنسحب بالقدر نفسه على العلاقات التقليدية بين باريس وشركائها في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. فقد تطفو مطالب وضغوط على غيرها وتحديداً في الملفات ذات الصلة بأوضاع حقوق الإنسان وحرية التعبير وتسريع الخيار الديموقراطي. إلا أن الأصل في الحرص الفرنسي أنه لا ينفصل عن روزنامة المصالح التي تصوغ السياسات. ففي كل مرة كانت القناعات تلين أو تغلف بقفازات حريرية، عندما تنتقل أحزاب اليمين أو اليسار من المعارضة إلى الحكم. المشكل أن شركاء فرنساالجنوبيين في الشمال الأفريقي يتحدثون دائماً بأكثر من خطاب ويختلفون مع بعضهم في ترسيم الأهداف إلى درجة أن حوارهم الانفرادي مع باريس وغيرها من العواصم الأوروبية يشكل محور ضعف ينجم عنه الإخفاق في أن يتحولوا إلى مفاوضين شركاء وأنداد. الجزائريون يعاركون فرنسا من أجل الاعتذار عن تاريخها الأسود إبان 130 سنة من الاستعمار. والمغاربة يسعون لكسب ود الاتحاد الأوروبي على رغم أنه يجحف حقوقهم في اتفاق الصيد الساحلي. بينما التونسيون والليبيون لم يغادروا جاذبية ربيعهم الذي لم يينع بعد. بينما الموريتانيون يبحثون عن الظلال الفرنسية التي تقيهم حرارة الأرض والسماء. كل طرف يريد أن يكون محاوراً أقرب إلى عقول وقلوب الشريك الأوروبي. كل عاصمة تعاند في أن لها حظوة خاصة، مع أن في إمكان المغاربيين في حال أجمعوا على وحدة الأهداف ومنطق التضامن أن يشكلوا صفاً واحداً لا يناله الاختراق. ومن المفارقات أن هذه المنظومة المتعثرة التي كانت في صلب الاهتمام الفرنسي والانفتاح الأوروبي قبل توسيع فضاء القارة العجوز انزاح وضعها الاعتباري إلى درجة أقل في مقابل الدعم الذي تدفق على الدول الخارجة من رحم المعسكر الشرقي. إسبانيا والبرتغال واليونان وغيرها لم تتوافر لديها فرص المساندة والمساعدة والدعم إلا في ضوء انضمامها إلى الوحدة الأوروبية. ولا يعني الانشغال الراهن بالأزمات المالية والاقتصادية لهذه الدول سوى أن الجسد الأوروبي لا يفرق بين المركز والأطراف. غير أن حتمية امتداده وتوسعه لن تكتمل من دون جذب مكونات خاصرته الجنوبية إلى التطور والتقدم ولو بحسابات حفظ الأسواق الاستهلاكية لمنتوجاته المختلفة. ما لم تفعله الدول المغاربية التي أخلفت مواعيد عدة في موازاة التجربة الأوروبية أنها تقف عند مقاعد المتفرجين. وكلما تعمق لديها الشعور بأن الأوروبيين لم ينصفوها أشهرت سلاح الفرقة في مواجهة بعضها بدل الاحتماء بقوة التنسيق والتضامن ووحدة الصف. لا معنى لأي مخاوف أو شكوك حيال السياسة التي سيلتزمها اشتراكيو قصر الإليزيه. فالفرنسيون صوتوا من أجل فرنسا وعلى المغاربيين أن يصوتوا بدورهم من أجل البناء المغاربي قبل الالتفات إلى تجارب الآخرين الذين ما انفكت عيونهم تسرح في اتجاه امتداد عمودي عنوانه المستقبل الأوروبي على مشارف جنوب البحر المتوسط.