كنت أعدّ لأبحث عن عبدالله المبارك في شعر سعاد الصباح، فوجدت حضوره في نفسها وحياتها أوسع بكثير من مساحة الشعر، فهو مرسوم على كل تفاصيلها وكل تاريخها... وقد اشتهرت نساء شاعرات بالرثاء... لكن نتاج سعاد الصباح الشعري والإنساني والفكري أخذ شكل الوفاء أكثر من شكل الرثاء، فكانت دوماً تخاطبه كواقع وكوجود وكحضور... شاخص أمامها بهيئته وبتاريخه، على رغم أنه خطاب عاطفي واعٍ ومدرك لحجم الغياب في الوقت ذاته... وليس من قبيل الاحتجاج على الفقد... فلم يتضح من كل ما كتبت أنها ترفض هذا الغياب أو تحتج على المقادير، بل إنها تقبل ما حدث بنفس راضية... وفي الوقت ذاته تعيد تشكيل الحضور بشكل آخر، فانجازاتها هي امتداد لحضوره، وأولادها هم استمرار لهيبته، وذكرياتها هي إعادة تشكيل واقع فات لواقع سيأتي.. هكذا تعيد سعاد الصباح أحداث الوفاء التي اشتهرت بها المرأة العربية.. وكم هو رائع أن تغيّر سعاد الصباح الصورة النمطية في الشعر التي تقوم جماليات شعر الغزل فيها على التغزل بحبيب ليس هو الزوج.. لتثبت أن الحب للزوج والتغزل به وإكباره في النفس والقلب يعطي بعداً أكثر جمالاً وجلالاً ونبلاً للكلمات وهي تسميه «القديس الذي علمني أبجدية الحب من الألف إلى الياء».. تنشد: «رسمني كقوس قزح/ بين الأرض والسماء/ وعلمني لغة الشجر/ ولغة المطر/ ولغة البحر الزرقاء». سعاد الصباح هي حالة انبهار قصوى بالزوج، وقناعة تامة به كشريك حياة، ليس في الأمر ادّعاء إعلامي، ولا بهرجة أدبية.. فهذا الإصرار في القول، والاستمرار في التعبير والشعور الجارف بأشكاله وإشكالاته، يثبت ويؤكد ما تذهب إليه.. ويحشد كل أحاسيسها لكي تكون الكلمات معبأة بها.. صدقاً لا حد لنقائه وصفائه. أما قصيدتها «آخر السيوف» التي تكاد تكون رثائية جيل، فهي علامة فارقة في مسيرتها الشعرية من حيث إحساسها ودفقها والسبك والحبك واللفظ والصور المتتابعة المتزاحمة التي تحكي مرارة فقد امرأة شامخة جبلها الذي جبلت عليه. في القصيدة تداخلت أحاسيس الوطن بأحاسيس الحبيب. وشجون الأمّة بشؤون الزوجة، فبلغت غاية الإحساس وأقصى الوجع وذروة الألم وسنام الحزن. وما دلالة آخر السيوف إلا ما تعنيه آخر جولات الفرسان في الحرب، فالسيف الأخير لا يكون بعده إلا إسدال الستارة على كل الجروح. السيف الأخير سيلتصق باليد التي تحمله معجوناً بالدم.. والإصرار. واستمراراً للوفاء أعدّت كتابها الأهم عن الشيخ مبارك الكبير مؤسس الكويت الحديثة... وكان الإهداء كما نتوقع تماماً: «إلى أسرتي الصغيرة.. إلى روح زوجي الشيخ عبدالله المبارك، إلى أولادي محمد ومبارك وأمنية والشيماء. إلى أحفادي وحفيداتي وإلى أسرتي الكبيرة أهل الكويت. صفحات تحكي عظمة قائد وشموخ شعب». وكان الكتاب القيّم الذي يحكي التاريخ وسيحكيه التاريخ. والمتتبع لسيرة الشيخ عبدالله المبارك مع الشاعرة يدرك مكانته في حياتها، فهو الذي أعطاها الحرية وفتح لها باب الحوار مع موهبتها الشعرية، وهو من ركب لها أجنحة تحلق بها في عالم الأدب والشعر، وهو الذي هيأ لها فرصة البلوغ إلى أعلى المراتب العلمية والأكاديمية في حياتها، أضف إلى ذلك ما كان للشيخ من مزايا الرجل الحاكم الذي كان له دور كبير في دولته. وتظل سعاد الصباح حالة خاصة ونادرة من الوفاء. يمكن استنباطها من تتبع صورها الكثيرة على مدى تاريخها وهي تقف دوماً إلى جانب عبدالله المبارك بشخصه، ثم إلى جانب صوره الكبيرة التي تتصدر القصر الأبيض.. بعد رحيله!