هل وصل الصعود الايراني في المنطقة الى ذروته وبدأت مرحلة الهبوط والتراجع؟ فلنلق نظرة على المعطيات: طوال السنوات الماضية اتهم الايرانيون الخارج باستهداف ثورتهم والتآمر عليها والسعي الدائم لقلبها، وظلوا ينسجون على هذه الفرضية لتبرير تدخلاتهم في محيطهم القريب والبعيد. قالوا ان الغزو الاميركي للعراق يهدد أمنهم وحدودهم فأرسلوا السلاح والمقاتلين والانتحاريين وخبراء التفخيخ، وادعوا ان العرب يعادونهم ويخططون لعزلهم فحرضوا الأقليات والجماعات ومولوها وسلحوها لزعزعة الاستقرار وفرض السياسات، واشاعوا ان اسرائيل تتحين الفرصة لضربهم فقصفوها بصواريخهم من جنوب لبنان ومن غزة... ثم «اكتشفوا» واكتشف العالم معهم ان المشكلة في الداخل، في قلب الدار، وان ما نجحوا طويلا في اخفائه خرج الى السطح ولم يعد ممكنا تمويهه والتحايل عليه. اظهرت طهران بنتيجة الانتخابات الرئاسية انها غير قادرة على التكيف مع المتغيرات من حولها، وانها عاجزة عن فهم وانتهاز الفرصة السانحة مع اليد الاميركية الممدودة. الاميركيون الذين شهدت علاقتهم بالعالم تراجعاً كبيراً طوال السنوات الثماني الماضية ثم عصفت بهم أزمة مالية واقتصادية استطاعوا التغيير وجاؤوا برئيس مختلف يقود عملية إعادة التوازن في الداخل والخارج. أما الايرانيون فأظهروا جموداً غير منطقي واختاروا المضي في الطريق نفسه، وقرروا التجديد لأحمدي نجاد الذي طبعت عهده التهديدات في كل اتجاه وتحدي العالم في ملف التخصيب خارجياً، وتعزيز دور الاجهزة الامنية و «الحرس» داخليا. وهذا هو الفارق بين الديموقراطيات والانظمة القهرية. فالأولى تمتلك في صميمها آليات التطور وتعديل الاتجاهات ومرونة الخيارات، والثانية يصيبها اي تغيير بالذعر وتخشى ان يجرفها فلا تجد سبيلا لمواجهته غير المزيد من التصلب. وحتى «الاوراق» التي وظفتها طهران في تمددها نحو الخارج تبدو هي الاخرى وقد استنفدت دورها ووهجها بعدما قدمت اقصى ما يمكنها من «خدمات»، وأظهرت، على مثال مرجعيتها، انها غير قادرة على تجديد نفسها، ودخلت في حال من المراوحة ستقود حتما الى تراجع اهميتها ووظيفتها مع تبلور المقاربات الاميركية الجديدة. ففي العراق، بدأت الدولة تستعيد سيادتها شيئا فشيئا لا سيما بعد انسحاب الاميركيين من المدن، وبات العالم العربي اكثر قبولا للنظام القائم رغم الملاحظات عن ضرورة توسيع المشاركة وضمان الحقوق، واثبت العراقيون انهم صاروا أكثر نضجاً عندما فشلت موجة التفجيرات الاخيرة في إعادة الاحتراب الطائفي. وبمعنى آخر فإن قدرة ايران على تحريك حلفائها واللعب على التناقضات هناك آخذة في التناقص، ولن يطول الأمر قبل ان يستطيع العراقيون رسم حدود منطقية لها. وفي لبنان، مني حليف ايران بنكسة سياسية بعيدة المدى، وتبين بنتيجة الانتخابات البرلمانية ان شعبية «حزب الله» باتت تقتصر على طائفته الشيعية وحدها، وبعض التحالفات المفروضة من خارج. لم يعد «النموذج الايراني» مغريا ولا قادرا على الجذب. جبهة الجنوب لم تعد مفتوحة. والحزب غير قادر على تحريكها متى شاء لأن النتائج قد تكون كارثية عليه وعلى لبنان. الانتخابات وضعت حداً لقدرته على تهديد الوضع الداخلي لأن ذلك ينذر بالتحوّل الى حرب طائفية واسعة. فيما دمشق تجهد لإثبات حسن نواياها والتزامها التعهدات ونيل شهادات التقدير الغربية. أما غزة، فلا تزال محاصرة وتئن من جروحها. وحركة «حماس» بالكاد تستطيع ادارة القطاع معيشياً وامنياً، ولا تملك القدرة ولا الجرأة على خوض نزاع جديد يضيف الى معاناة سكانه. والصواريخ التي تطلق من حين لآخر دورها فقط التذكير بأن هناك طرفاً موجوداً يجب أخذه في الاعتبار ومحاورته. لكن الثقل السياسي للفلسطينيين معقود للقيادة الشرعية التي يخاطبها العالم. استخدمت ايران هذه الاوراق ببراعة طوال الفترة الماضية، ووصلت اندفاعتها الى أقصاها، لكنّ خصومها المفترضين تطوروا وتغيروا ونجحوا في اطلاق عملية احتوائها. اما هي فلا تزال أسيرة نمط التفكير ذاته والمقاربة ذاتها لنفسها وللعالم، ما يجعل من الصعب تصور حل لأزمتيها الداخلية والخارجية من دون تغيير المعادلة القائمة، ولو بالقوة.