«لقد ولى الزمن الذي كانت فيه الامبراطوريات تتحكم في الدول مثل بيادق الشطرنج»... هذا ما قاله باراك أوباما، ويقصد فيه اجتماع مؤتمر يالطا بين روزفلت وتشرشل وستالين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية عندما تقاسموا النفوذ في العالم. وخلقوا ما عرف في ما بعد بمرحلة الحرب الباردة التي قسمت العالم إلى معسكرين، رأسمالي بقيادة الولاياتالمتحدة الأميركية، وشيوعي بقيادة ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، وفي ما بينهما ظهرت بعض الدول التي حاولت أن تحافظ على حياديتها، إن هذه الكلمات تعكس التوجه الذي ينتهجه الرئيس الأميركي منذ حملته الانتخابية وحتى انتخابه، القائم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل بين الدول والأمم من مختلف الثقافات والأعراق. من موسكو إلى روما إلى أكرا، وقبلها أنقرة والقاهرة وباريس ولندن، جاب أوباما هذه الدول والعواصم خلال فترة قصيرة من رئاسته، شارحاً وناشراً أفكاره القائمة على إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم والاحترام وتبادل المصالح بين الدول والشعوب، والتي قالها ونادى بها خلال حملته الانتخابية وبعد تسلمه الرئاسة، حيث توجه في خطابه للبرلمان الغاني بقوله: «أفريقيا ليست بحاجة إلى رجال أقوياء، بل مؤسسات قوية»، طالباً منهم الاهتمام بالتنمية والاعتماد على المصادر الذاتية التي تملكها القارة السوداء، من خلال وجود حكم رشيد لا من خلال الانقلابات التي تؤدي إلى كوارث سياسية واقتصادية وبشرية وفقر وجوع وتعطيل للتنمية. «نعم تستطيعون ...» كررها في غانا ليؤكد عدم استحالة تحقيق الأهداف، مذكراً بشعار حملته الانتخابية للرئاسة، ومدللاً على ذلك عندما زار قلعة «كيب كوست» رمز العبودية والقهر، التي استخدمت في تجارة العبيد عبر الأطلسي كنقطة انطلاق لسفن تجار الرقيق والقراصنة الذين يعملون معهم في هذه التجارة، لتصبح اليوم معلماً أثرياً لهذه التجارة البغيضة، إن زيارة أوباما لغانا كأول دولة أفريقية جنوب الصحراء رئيساً، لها دلالات كثيرة، منها زيادة حدة التنافس الدولي على هذه القارة الغنية بالثروات الطبيعية، خصوصاً أنها تأتي بعد مدة قصيرة من زيارة الرئيس الروسي ميدفيديف لبعض الدول الأفريقية، وكذلك لمواجهة النفوذ الصيني القائم منذ عشرات السنين في عدد كبير من الدول الأفريقية، ولتكرس الجهود الأميركية بالتوجه للقارة السوداء والاستفادة من المشاريع التنموية فيها ومساعدتها على النهوض، لقد أنشأت الولاياتالمتحدة الأميركية قيادة للتدخل السريع في أفريقيا مقرها ألمانيا، بعد أن فشلت في إقناع أي دولة أفريقية لقبول وجود هذه القيادة على أراضيها، مما يدل على الاهتمام الأميركي بالقارة الأفريقية في الآونة الأخيرة. لقد اختار الرئيس الأميركي غانا كمحطة أولى في زيارته، ليرسل رسالة للدول الأخرى، أن نهج الديموقراطية والحكم الرشيد هو ما تشجعه الولاياتالمتحدة الأميركية، حيث امتدح التجربة الغانية في الانتخابات التي جرت العام الماضي، والتي استشهد بمدى تأثيرها الإيجابي على الحياة السياسية والاقتصادية على الشعب الغاني بشكل خاص وعلى القارة الأفريقية بشكل عام، عندما ذكر أن دخل الفرد في كينيا أعلى من دخل الفرد في كوريا الجنوبية عند ولادته، وكيف تغيرت الأحوال في الوقت الحاضر، وهذا بسبب غياب الديموقراطية والحكم الرشيد والشفافية، ليسود بدلاً منها الانقلابات والحروب الأهلية التي أعاقت خطط التنمية والتطور في أفريقيا. لقد بدأت الولاياتالمتحدة الأميركية تنظر بأهمية كبيرة للقارة السوداء من ناحية الاستثمار ومواجهة النفوذ الصيني المتجذر والقوي، والروسي العائد بقوة، من خلال تشجيع الحكومات الأفريقية على انتهاج الديموقراطية والشفافية في الحكم وتقوية مؤسسات المجتمع المدني، لتجنب مسببات الحروب الأهلية والنزعات الانفصالية، مما يشجع المؤسسات المالية والشركات في الاستثمار في القارة التي لم تهتم بها الولاياتالمتحدة منذ فترة طويلة، تاركة المجال للدول الأخرى في أخذ الساحة في القارة السوداء، علماً بأن الرئيس أوباما قام بزيارة عدد من الدول الأفريقية عام 2006 وهي كينيا، أثيوبيا، تشاد، جيبوتي، وجنوب أفريقيا، عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي، مما يعكس اهتمامه الشخصي بهذه القارة، وكذلك يبين مدى فهمه للواقع الأفريقي وأهميته لاستراتيجية الولاياتالمتحدة الأميركية المستقبلية. عندما يقول أوباما إن دماءكم في عروقي، وافتخاره بهذه الجذور، فهو كأنه يقرب بين القارة الأفريقية والولاياتالمتحدة الأميركية، آملاً بفتح آفاق جديدة للعلاقات بينهما تقوم على أسس وقواعد ثابتة وقوية، وتساعد الطرفين في بناء الثقة، وبوجود رئيس من جذور أفريقية، يمكن أن يساعد في تطوير هذه العلاقات بين الطرفين، والسؤال المطروح هو: هل تساعد هذه الجذور الأفريقية الرئيس أوباما في كسب المصالح الأفريقية للولايات المتحدة؟ إن المتتبع للتنافس الدولي على القارة الأفريقية يلحظ أن هذا التنافس بدأ يصل إلى قمة السلطة في الدول المتنافسة من خلال الزيارات التي يقوم بها رؤساء هذه الدول لأفريقيا، وزيارة أوباما ستشعل هذا التنافس وتجعل القارة الأفريقية تستفيد من المنافسة بكسب المزيد من المشاريع والتسهيلات من هذه الدول، لذلك نجد أن أفريقيا هي الحاضر الأكبر في قمة الثماني الصناعية في روما، من خلال دعوة ثلاثة رؤساء من أفريقيا لحضور هذه القمة وهم: الرئيس المصري حسني مبارك والرئيس الجنوب أفريقي والرئيس الليبي معمر القذافي، بصفته رئيس منظمة الوحدة الأفريقية في هذه الفترة، مما يعزز الاعتقاد بأن أفريقيا ستكون المستفيد الأكبر من المعونة التي خصصتها قمة الثماني الصناعية في روما لدعم الدول الفقيرة ومقدارها 20 بليون دولار. لقد مثلت زيارة أوباما لقلعة «كيب كوست» تكفيراً لما اقترفته الامبراطوريات الغربية، خصوصاً الأميركية منها بحق الشعوب الأفريقية، وتدليلاً على سيادة المبادئ والقانون في النهاية، وذلك من خلال إتاحة الفرص للجميع، وهو ما أوصل أوباما إلى سدة الرئاسة وهو من أصول أفريقية. لقد وصف كسينجر أوباما بلاعب الشطرنج المحترف، والجميع يعرف مدى تأثير كسينجر واطلاعه في السياسة الدولية، وكذلك تأثيره على السياسة الخارجية الأميركية، خصوصاً في فترات الجمهوريين، مما يدل على بطلان الاتهامات التي كانت توجه لأوباما بعدم خبرته وإلمامه بالسياسة الخارجية أثناء حملته الانتخابية من خصومه، ودخول السياسة الأميركية في فترة أوباما حقبة جديدة فرضتها الظروف السياسية والاقتصادية، المحلية منها والدولية. * أكاديمي سعودي