من مصادرة باخرة الأسلحة في الشمال، إلى تفاقم السجال السياسي والمذهبي، وصولاً الى تكرار الاشتباكات العائلية المسلحة، يبدو لبنان وقد فقد قدرته على تصريف الضغط المتجمع داخله والآتي إليه من محيطه. الخلافات حول القانون الواجب اعتماده للانتخابات النيابية العام المقبل، لناحية الانتقال الى الاقتراع النسبي او عدمه، والحملة التي باشرها «التيار الوطني الحر» على رئيس الجمهورية قبل عامين من الانتخابات الرئاسية، وسط استمرار التوتر السني-الشيعي والأجواء التي خلفتها محاولة اغتيال سمير جعجع، تأتي كلها على خلفيتين: الأولى، داخلية اقتصادية-اجتماعية، تبدو فيها أسعار السلع والخدمات في صعود غير مبرر وغير مفهوم، باستثناء ذريعة ارتفاع اسعار النفط والوقود. غني عن البيان ان الزيادة الهزيلة على الرواتب التي دارت حولها معركة سياسية حامية (وعبثية في آن)، لم تفد في تهدئة حال الغليان الاجتماعي، الذي لا يجد تعبيراً عن نفسه غير التحول الى مزيد من الالتفاف حول زعماء الطوائف. فتَدخُل المسائل الاقتصادية والاجتماعية الأساسية في سوق مهاترات السياسيين، المدركين حقيقة أن تجديد النظام الطائفي يمر عبر الإمساك بقوت اللبنانيين وبصحتهم وتعليمهم. يضفي هذا الواقع اجواء إحباط شديد على قطاعات الشباب، الذين يجدون أنفسهم امام افق مسدود وطموحات محطمة وعجز عن الفعل والتأثير السياسيين، على غرار ما يفعل شباب «الربيع العربي». الخلفية الثانية، أن بقاء الوضع في سورية على حاله من المراوحة، يحفز عدداً من القوى على اتخاذ إجراءات تكفل لها البقاء في مواقعها المهيمنة في المجالات السياسية والامنية بعد التغيير المتوقع في دمشق. ويخطئ من يعتقد ان «الأكثرية» الحالية التي قبضت على الحكومة في ظروف معروفة، ستتخلى عن السلطة عندما يسقط حليفها السوري، بل هناك ما يدعو الى الاعتقاد ان ساعة الاختبار الحقيقي لقدرة هذه القوى على أداء مهماتها الإقليمية (وهي أُنشئت ومُوّلت ودُربت في الأصل من أجلها) في حماية نظام بشار الأسد وردع أي هجوم على البرنامج النووي الإيراني تقترب. وتزداد الصورة اسوداداً مع حالة الخواء التي تعيشها الهيئات النقابية، والتحاقها -من دون استثناء تقريباً- ب «مرجعيات» طائفية لا همّ لها في المجال العمالي والمهني غير استغلال الاحتقان الذي تعاني منه الفئات الأعرض من اللبنانيين في خصومات يديرها صغار السياسيين (بمعنيي الاخلاق والرؤية) المنفصلين عن الواقع المعاش انفصالاً ناجزاً. وتطفو على هذا الاحتقان الآتي من أعماق المجتمع اللبناني، بذاءات سياسيي هذا الزمن، المنذر ب «الجوع الأغبر والموت الأحمر» (على ما جاء في الحديث). بذاءات لا تكشف غير الاستسلام القدري الى الزمن وتقلباته من دون أقل قدرة على الفعل الواعي او على وضع نصاب لمصلحة عليا تجمع اللبنانيين تحتها. لا عزاء للبنانيين في وضعهم المزري هذا ولا مخرج لهم من انتظارهم اللانهائي غير التأمل في معاناتهم المتعددة الوجوه والأسباب والانتقال من مجال التذمر والشكوى الفارغين الى حيز العمل السياسي المستند الى تحديد لمصلحة وطنية تجمعهم وتحميهم من التعرض مجدداً إلى أعاصير التطاحن الإقليمي المقترب.