منذ اللحظة الأولى التي ثارت فيها تلك القضية التي ستعرف من الآن فصاعداً بقضية عادل إمام، ترد على خاطر كاتب هذه السطور صورة من ماض قريب. كان ذلك منذ عقدين من السنين في عزّ ايام النضال والتقدم. يومها تزوّج صديق لنا كان من أكثرنا تقدماً واندفاعاً وليبرالية. احتفلنا بعرسه متحمسين بخاصة ان العروس كانت بدورها صديقة لنا ولا تقلّ عن عريسها تقدماً واندفاعاً وليبرالية. كان العرس فخماً وانشدنا فيه كثيراً اغاني الوطن والنضال والحرية والمقاومة. شتى انواع المقاومة. ثم انقضى الحفل وذهب كلّ الى شؤونه والعريسان الى ليلة دخلتهما. في اليوم التالي، اذ التقينا العريس سألناه بودّ كيف كانت ليلته... فأجاب بكلّ حماسة ورجولة:... لقد أدنيتها مني منذ اللحظة الأولى وصفعتها على وجهها صفعة ألقتها أرضاً. ذهلنا وسألناه هل تراها ارتكبت، معاذ الله خطأ؟ اجاب: فشر! كلّ ما في الأمر انني أحببت ان أفهِمها منذ البداية انني الرجل في البيت، افعل ما اشاء وما عليها هي سوى أن تطيعني. ما يهمنا هنا من هذه الحكاية يتوقف عند هذه النقطة... كما اننا سنترك للقارئ اللبيب مهمة تفسير العلاقة بين ما نرويه وبين ما نودّ ان نقوله في السياق الذي نتحدث عنه هنا: سياق قضية الحكم الصادر على الفنان عادل امام في مصر، والذي لو نفّذ سيضعه في السجن ثلاثة اشهر وقد تزيد... لا ندري تماماً. سيضحك في سجنه نتخيّل عادل إمام في السجن... ونتخيّل انه لا شك سوف يضحك كثيراً هناك. سوف يعتبر الأمر برمّته مزاحاً... حتى ولو كان مزاحاً ثقيلاً. لكنه لن يشعر بالضيق على الأرجح. فعادل إمام فنان حقيقي. وفي وسع الفنان الحقيقي ان يتقمّص كل الحالات ويضع على وجهه قناع ما تيسّر من شخصيات، بما في ذلك شخصية السجين. وهو على اية حال تقمص الشخصية في بعض اجمل افلامه (من «الأفوكاتو» الى «حب في الزنزانة» وغيرهما)... ولكن نجم النجوم – وهذا هو لقبه الشعبيّ وسيظلّ يحمله لأن الشعب هو الذي منحه اياه لا أيّ نظام ولا اية جماعة -، نجم النجوم هذا سوف يشعر بكثير من الأسى ليس لحاله، بل لحال وطن وأمة وقوم لم يستوعبوا كما يبدو اياً من دروس التاريخ، فأعادوا – بالديموقراطية من فضلكم! – أغلالاً كانت ثورة يناير أعتقتهم منها. ولحال مجموعات من الناس لم تعرف ماذا تفعل بالحرية التي اهدتها اياها تلك الثورة. وبخاصة لحال قوم لا يحاكمون هذا الفنان الكبير بالجنحة التي يتحدثون عنها – اي التجني على الإسلام – بل بتهمة اخرى تشرّفه كثيراً: تهمة الدفاع عن الإسلام الحقيقي، إسلام الشعب والأفئدة... في وجه الذين لم يتوقفوا منذ عقود عن الإساءة الى الإسلام باسم «دين غريب» عن الإسلام شعاره الإرهاب وأدواته تجهيل الجماهير وأدلجتها لمآرب سياسية لا علاقة لها بالدين... بأي دين على الإطلاق. وهنا ليعذرنا القضاء المصري الذي نجلّ ونحترم في مخالفتنا رأيه طالبين منه التفضل بمشاهدة «براهين الجرم»، اي افلام عادل امام ومسرحياته وأقواله، بدلاً من «الحكم غيابياً» على طريقة ذلك الشيخ الجليل الضرير – شفاه الله - الذي اذ ساجلناه على شاشة احدى المحطات حول قضية عادل امام سألناه وقد وجدناه متحمسّاً ضد الرجل مطالباً بأن تنزل به عقوبة اقسى من السجن بسبب افلامه: ولكن كيف تحكم على افلام لم تشاهدها ايها الشيخ المحترم؟ فأجاب: وهل يحتاج المؤمن الى مشاهدة مثل هذه الأفلام الكافرة حتى يحكم على صاحبها؟... ولكم تذكّرنا في تلك اللحظة ذلك الإرهابي الأرعن الذي حاول اغتيال اديبنا الكبير نجيب محفوظ حيث انه حين سئل هل تراه قرأ رواية للأديب الكبير حتى يقرّر قتله، اجاب: لا لم اقرأ له سطراً!! بين الإسلام والإرهاب في يقيننا هنا، إذاً، ان المفترين على عادل امام، ومحاكميه، لا يفعلون ذلك انتصاراً للإسلام. من يشاهد اعمال عادل امام يعرف تماماً ان معركة الرجل العنيفة كانت مع الإرهاب وليس مع الإسلام. من هنا نعتقد ان جريمة هذا الفنان كانت في تفريقه الحاسم بين الإسلام والإرهاب. بل اننا اذا ما شاهدنا افلامه ومسرحياته (من «الإرهابي» الى «طيور الظلام» و «الإرهاب والكباب» و «حسن ومرقص» و «الزعيم»...الخ) سنجد بسرعة ان منطق عادل امام يقوم على خوض حرب الإسلام ضد الإرهاب... ومن هنا لا بد من التأكيد على الفور ان ما يحدث في مصر من حول عادل امام اليوم، انما هو انتقام الإرهابيين من فنان حاولوا مراراً ان يؤذوه وأن يتخلصوا منه لكنهم عجزوا عن ذلك، ما استدعى تأمين حماية عسكرية له طوال سنوات. ومع هذا يعرف عشرات ملايين العرب والمصريين من الذين يحبون عادل امام ويتابعون افلامه وأعماله، ان الرجل كان في الوقت نفسه شوكة في خاصرة النظام السابق وكل نظام سابق. فهو كفنان مبدع كان ولا يزال يعرف ان الدور الحقيقي للفنان هو ان يدلّ الشعب على طريق الحرية ومناهضة الفساد ومحو عبادة الماضي وتأليه الزعيم كل زعيم، وهذا الدور كان عادل امام ولا يزال، وسيظلّ يلعبه لأنه يعرف ان ما من دور سواه للفنان الى جانب الحضّ على حب الحياة والفرح والتمتع بكون جميل مقبل دائماً على المستقبل يتناقض تماماً مع بلادة ثقافة التجهّم والموت والخمول التي تعدنا بها الجماعات المؤدلجة، سواء اكانت في السلطة ام في المعارضة. وفي هذا الإطار يلوح لنا ان ثمة تهمة ثانية خطيرة يتهم بها عادل امام وكلّ فنان كبير من طينته: حب الحياة وتعليم الناس من طريق العدوى كيف يحبّونها. نعم... هذه التهمة لا تطاول عادل امام وحده بل كلّ الجسم الفني والفكري في مصر وغيرها من البلدان العربية وغير العربية في زمن «الثورات» هذا... ولعل الوقت حان هنا للعودة الى حكاية صاحبنا الذي صفع عروسه ليلة الدخلة، انما كذلك من دون ان نسرف في الشرح وفي المقارنة. اصل الحكاية ان الحكاية بالنسبة الينا ليست هنا حكاية عادل إمام...الأمر اعمق وأبعد من ذلك بكثير... وليسمح لنا فناننا الكبير بأن نقول هنا انه ليس سوى «مثال» (فأر اختبار إذا شئتم) يستخدم في الأمر كله، مثال ذو وزن لكنه مثال لا اكثر. ذلك ان من الواضح بالنسبة الينا ان الضربة الموجهة الى عادل امام انما يقصد بها الجسم الفني والفكري والإبداعي في مصر – وربما العالم العربي كلّه -. وجهت «الضربة» الى الزعيم كي يخاف الباقون ويصمتوا او يرحلوا او ينتحروا... كي يختفوا باختصار. وذلك بكل بساطة لأن الإبداع مرفوض في هذه الحقبة من ازمان ما كان الى فترة يسيرة يعتبر «ربيعاً عربياً»... كل صوت يتوق الى الوعي والى الحرية الحقيقية مرفوض في ازمنة الزعيق بالشعارات والخطابات «الشعبوية» و «الانتصارات» الخادعة. فالذين سرقوا الثورات بفضل ديموقراطيات الجهل وديكتاتورية العدد، يعرفون جيداً ان استيلاءهم الكامل على السلطة لا يستقيم الا بإسكات الصوت الوحيد الذي يمكنه ان «ينافسهم» على الوصول الى آذان وأفئدة الجماهير، بعدما قمعت أو أسكتت او سكتت طواعية كل الأصوات الأخرى من حزبية وسلطوية... فلم يبق سوى صوت المبدعين الذين سيعرفون بفنونهم الواصلة الى الجمهور كيف يفضحون كل خلل وتهافت وقمع... كما فعلوا دائماً ومنذ فجر التاريخ تجاه كل نظام وكل قمع وكل سلطة. هذه الفنون هي التي يريد المتزمتون اليوم تدجينها... وبدءاً من «ليلة الدخلة»... وأيضاً بالطرق القانونية طالما ان كل السلطات، بما فيها السلطات الأمينة على القانون والدستور هي في يدهم وستصبح كذلك اكثر وأكثر في ظل سلطوية شعبوية تنطلق من الجهل والتجهيل لتصب في ممارسة للسلطة نعرف جميعاً ليس فقط انها في ما تعدنا به، لا تختلف عما كانت تمارسه السلطة السابقة بل ستكون – إذ يقرأ المكتوب من عنوانه – أشرس وأشدّ مكراً حتى ولو وعدت بأن تكون – سطحياً على الأقل -، اقلّ فساداً. وهي لكي تتمكن من هذا، تعرف ان عليها ان تسكت الصوت الوحيد الذي يمكنه منافستها على وعي الجمهور وفؤاده: صوت الفن وصوت الإبداع. ونعرف طبعاً ان ليس في هذا اي جديد... فالثورات جميعها مهما كانت درجة نزاهتها وصواب تطلعاتها، سواء أكانت ثورة فرنسية ام بولشفية روسية ام ايرانية ام جزائرية ام اي شيء آخر، كان اول ما فعلته حين «انتصرت» ان أكلت أبناءها ودمّرت احلام فنانيها ومبدعيها... ليس المجال كافياً هنا للتفاصيل، لكن كل من يقرأ التاريخ يعرف هذا. لكنه يعرف ايضاً ان من بين أبناء الثورة جميعاً الذين يؤكلون ويقمعون ما ان تتحول الثورة الى سلطة – او الى كاريكاتور سلطة! –، وحدهم الفنانون ينهضون ويعودون الى لعبة الحرية والإبداع، فللأفكار اجنحة به تطير وتحلّق كما علمنا يوسف شاهين... ويقيناً ان عادل امام، حتى في سجنه – إن سجن – سيكون اقوى ألف مرة من جلاديه. ففي نهاية الأمر زوروا اليوم بيت صاحبنا، عريس اول هذا الكلام، لتروا بأم أعينكم كيف تتحكم به زوجته وتعامله كأنه حمل وديع مطيع!