عندما كتب «كشغري» تغريدته الشهيرة، تعالت أصوات العوام مثل ألسنة النار، ومن ورائهم ومن أمامهم رموزهم. إن أولئك الذين نثروا دموعهم، وشقوا جيوبهم، وصاحوا: وامحمداه!... وامحمداه! ما فعلوا كل هذا إلا من أجل كسر ظهور خصومهم من الليبراليين، وبالمثل، فإن أولئك الذين دبجوا المقالات، ونشروا التغريدات، بعد أن قال أحد الدعاة ما قاله عن النبي «صلى الله عليه وسلم» والخمريات، ما فعلوا هذا كله إلا من أجل رد الصاع له صاعين. في كلتا الحالتين، أراد هذا وذاك أن ينهشا لحم بعضهما البعض، ليس حباً في الله ورسوله، كما يلطمان ويتباكيان، وإنما بغضاً وكرهاً في بعضهما البعض. ما صنعه الطرفان ليس بجديد، وإنما طبع جُبل عليه الإنسان منذ أن اهتدى إلى الأديان، فمنذ أبد الآبدين ودهر الداهرين، تدحرجت رؤوس كثيرة، ووقعت مجازر عدة، وسالت دماء غزيرة، بدعوى الحفاظ على المقدس وتنفيذ مشيئة الإله، بينما هي في حقيقتها انتصار لمطامع شخصية، أو سياسية، أو اقتصادية. اقرأ معي هذا المقطع الوارد في «سفر يشوع»، عندما طوّق بنو إسرائيل أسوار مدينة أريحا الكنعانية المنيعة: «... وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافاً عظيماً، فسقط السور في مكانه، وصعد الشعب إلى المدينة، كل رجل مع وجهه، وأخذوا المدينة. وحرموا «قتلوا» كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف...». أباد الإسرائيليون بحسب العهد القديم، وباسم الرب، كل شيء حي، من بشر وبقر، بغضاً للكنعانيين وطمعاً في أراضيهم التي تفيض لبناً وعسلاً، كذلك مارس المسيحيون وحشية مفرطة بحق من نعتوهم بالوثنيين، وباسم يسوع المسيح، كتب مدون أخبار إيطالي رافق الصليبيين عند اقتحامهم لمدينة القدس: «وعندما دخل حجاجنا المدينة، ساقوا وقتلوا المسلمين حتى في هيكل سليمان بالذات... وأخيراً، تغلب رجالنا على الوثنيين واعتقلوا عدداً من الرجال والنساء في الهيكل، وقتلوا منهم قدر ما أرادوا، وأبقوا منهم قيد الحياة قدر ما أرادوا»، إن الدماء التي ولغ فيها الصليبيون ما كانت لأجل رسول المحبة والسلام، ولكنها لأجل الاستيلاء على كنوز الشرق والهيمنة على مفاصل التجارة البرية والبحرية. ما فعله الكتابيون - اليهود والنصارى - فعله المسلمون بعدهم، خصوصاً في ما بين بعضهم البعض، فمنذ القرن الهجري الأول، سّل المسلمون السيوف في وجوه بعضهم البعض، وكل منهم يقول إنه ما أراد قتل صاحبه إلا نصرة لله ورسوله! خذ الخوارج، مثلاً، إن هؤلاء الذين أكل التراب جباههم من طول السجود، لم يتأخروا في التقرب إلى الله ورسوله بدماء الأبرياء من الرجال والنساء، والشيوخ والأطفال. هل كانت تلك القرابين البشرية تقدم من أجل الله ورسوله، فحسب؟ لا، لم تكن تلك المذابح إلا تنفيساً منهم عن امتعاض مكبوت من استئثار قريش بمغانم السلطة. أدرك كم هي دموية ومتطرفة تلك الأمثلة أعلاه، ولكني أردت إيضاح حجم البشاعة التي قد ترتكب باسم المقدس، على رغم دنيوية الغايات والمقاصد. منذ الأمس، وإلى اليوم، وربما إلى الغد، سيبقى الدين مطية للمنتفعين ممن يبحثون عن منافع اقتصادية، أو مآرب اجتماعية، أو مقاصد سياسية، وكل هذا تحت راية الله. إن التقنع بأقنعة الدين قد يفجر ما في النفس من مكامن الكراهية والحقد والتدمير، ولكن تحت غطاء شرعي يوفر لصاحبه الطمأنينة وراحة الضمير، إنها لعبة خطرة، فلنحذرها حتى لا نُصلى بنارها أجمعين! [email protected]