تمثّل بلدة العلا القديمة (حي الديرة) نموذجًا فريدًا للمدينة الإسلامية القديمة، وقد أقيمت حول قلعة على رأس هضبة صغيرة يقال لها: أم ناصر، وتعرف القلعة باسم قلعة العلا وقيل: إنها تنسب لموسى بن نصير، وقد أعاد بناءها المعز الدين الفاطمي، سنة 358ه/968م، وجددها السلطان العثماني سليمان القانوني. تتألف البلدة القديمة (الديرة)، وفق ما كانت عليه في عام 1395ه، من (870) وحدة سكنية (الحجيري 1422ه: 8) (في عام 1081 ه، كان عدد الوحدات السكنية ما يقارب من سبعمائة منزل سليم، وقد لعبت الظروف الأمنية وصغر مساحة البلدة الدور الأكبر في تخطيطها. وصممت البلدة القديمة في العلا (حي الديرة) بطريقة يسهل الدفاع عنها، وظهرت كأنها مبنىً واحدًا يضم عددًا من الوحدات المعمارية المتلاصقة، تتخللها أزقة ضيقة ومرصوفة، في غالبها، ولا يزيد اتساعها عن مترين، إلاّ في بعض المواقع، التي تستخدم كمكان لبيع المنتجات المحلية، وقد سقفت بعض أجزاء الأزقة، وبعض هذه الأزقة غير نافذ، وأقيمت غرف فوق بعض الأزقة، لمهام أمنية ونوع من التوسعة، تسمى “الطيارة” لمراقبة المارة، وقد وصف كل من أنتوني جوسين ورالف سافينياك الفرنسسيين، اللذين زارا المنطقة في بداية القرن العشرين، أزقة البلدة القديمة بأنها كانت ضيقة ومتعرجة، وأنها تنقسم إلى قسمين متماثلين هما: حارة الشقيق في الشمال وحارة الحف في الجنوب. بين التاريخ والتراث وفي دراسة قدمها الدكتور عبدالناصر بن عبدالرحمن الزهراني رئيس قسم إدارة موارد التراث والإرشاد السياحي بكلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود، أوضح فيها أن العلا تقع في أعلى وادي القرى، وتبعد عن الحجر (مدائن صالح) جنوبًا 22 كيلو مترًا، وكانت مأهولة بالسكان منذ القديم. وسكنها الديدانيون واللحيانيون والأنباط. ودلت الحفريات التي تقوم بها جامعة الملك سعود أن المنطقة ذات تاريخ عريق يمتد إلى ما قبل القرن السادس قبل الميلاد حتى الآن. وكانت تسمى قديمًا بديدان، وقد ورد هذا الاسم في التوراة وفي كتابات الآشوريين، وفي العديد من الكتابات العربية القديمة، وسكنت القبائل النازحة من جنوب الجزيرة العربية ديدان (العلا)، وكونت ما يطلق عليه في المصادر التاريخية (دويلات المدن). مضيفًا: “تعدّ مملكة دادان أقدم مملكة عربية نشأت في المنطقة، وكانت تحتل موقعًا استراتيجيًا على الطريق الرئيسي لتجارة البخور والتوابل، وهي من أهم المواد التجارية الرائجة في العالم القديم، وأنها مرحلة من مراحل مملكة ديدان، ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد. وكان يطلق عليها في المصادر الرومانية القديمة، وقد تكون مملكة لحيان هي نفسها مملكة ديدان، فكانت النسبة الأولى للمدينة والثانية للقبيلة (لحيان). لم تصمد مملكة لحيان طويلًا أمام هجمات الأنباط، الذين أسسوا لهم مملكة عربية سميت مملكة الأنباط، واتخذوا من سلع (البتراء) عاصمة لهم، حيث استطاعوا أن يستولوا على الحجر (22 كيلو مترًا شمال العلا) سنة (65 قبل الميلاد)، وجعلوها عاصمة ثانية لهم في الجنوب، وعلى ديدان (العلا) سنة (9 قبل الميلاد) وحل الأنباط محل اللحيانيين، وسيطروا على طرق التجارة القديمة، بدلًا عن اللحيانيين، التي تربط بين الهند وجنوب الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق. وانتهت مملكة الأنباط سنة 106 ميلادي إثر سيطرت الرومان على الحجر، وتحول طريق التجارة إلى البحر، وبدأت الحجر (مدائن صالح) تفقد أهميتها كمحطة رئيسة على طريق التجارة، وانعكس ذلك على الحالة الاقتصادية، وبدأ الناس في الرحيل عنها، وبعد عدة زيارات قام بها الباحث للبلدة القديمة تبين أنها في تسارع نحو الدمار، فقد زارها الباحث أول مرة في عام 1425ه مع بعثة الآثار من جامعة الملك سعود، ثم آخر مرة، وليست الأخيرة، 1428ه، وكان الفرق كبيرًا. فمبانيها وأزقتها وسقوفها وبواباتها ودكاتها ومقاهيها متهدمة جميعها والسالم منها آيل للسقوط، فجدرانها متشققة، وأخشابها نخرها النمل الأبيض، وأزقتها سدت بما تهدم من المباني، وأصبحت البلدة القديمة، بعد أن كانت الكلاب تمنع من الدخول فيها مأوًا لها. وأصبح طابعها ونسيجها العمراني، كما يقال: أثرًا بعد عين. وهذه البلدة الفريدة بمساجدها ومدارسها وأزقتها ومتاجرها وأسواقها تمثل المدينة الإسلامية القديمة، وهي الوحيدة في الجزيرة العربية، حسب ما أعلم، وليس هناك بلدة تشبهها إلاّ في المغرب وتونس وإسبانيا، والمحافظة عليها تعني المحافظة على ترثنا العمراني”. الوضع الإدراي الراهن للتراث العمراني في البلدة القديمة ويمضي الزهراني في دراسته كاشفًا عن الوضع الإدراي الراهن للتراث العمراني في البلدة القديمة بقوله: “وضع التراث العمراني في المملكة بشكل عام، يؤثر بشكل مباشر على وضع البلدة القديمة في العلا وذلك من عدة نواحٍ. 1- بالنسبة للبلدة نفسها: • ليس هناك جهة واضحة مسؤولة عن التراث العمراني في المملكة العربية السعودية، ومن ثم من المسؤول عن المحافظة البلدة القديمة. • غياب التشريعات والأنظمة التي تلزم ملاك البلدة القديمة بالحفاظ عليها. • كل مباني البلدة القديمة ملك خاص. • هناك نقص واضح في المعلومات الخاصة بالبلدة القديمة. وهناك الكثير من الوثائق عند بعض ساكني العلا تستحق إماطة اللثام عنها ودراستها. 2- الوضع العام في المملكة العربية السعودية وينطبق على البلدة القديمة: • لا يوجد في المدارس أو الجامعات ما يحض على المحافظة على التراث، بشكل عام، والتراث العمراني بشكل خاص. • نقص الكوادر الفنية المؤهلة في الجهات التي ينتظر منها الحفاظ على التراث العمراني. • غياب المواصفات الفنية والضوابط المنظمة لأعمال ومشروعات الترميم والحفظ. • ضعف مصادر التمويل المالي، وعدم وجود مخصصات مالية معتمدة من وزارة المالية؛ لإعادة إحياء التراث العمراني في مدن ومناطق المملكة، بشكل عام، والبلدة القديمة في العلا بشكل خاص. • عدم العناية بالجوانب الإعلامية والتوعوية والتشجيعية للحفاظ على التراث العمراني. • ضعف التنسيق بين مختلف الجهات الحكومية ذات العلاقة في حماية وصيانة المباني التراثية. • غياب خطط وآليات وبرامج التنفيذ الخاصة بإعادة إحياء التراث العمراني. • لا توجد في البلديات أقسام معنية بالحفاظ على هذا التراث. • قلة الدراسات الفنية والاقتصادية عن جدوى استثمار القطاع الخاص لمواقع التراث العمراني. • قلة الخبرات الفنية على مستوى الأفراد والشركات في استثمار مواقع التراث العمراني. الخلاصة وتخلص دراسة الزهراني إلى العديد من النتائج هي نتاج الزيارات الميدانية العديدة التي قام بها الباحث لمنطقة الدراسة، ملاحظة وتوثيقًا وتحليلًا، والتي تتمثل في: 1- أن استراتيجية التخطيط العمراني للعلا القديمة قد جاءت وفق الظروف الأمنية التي كانت سائدة آنذاك، بالتزامن مع الاستفادة من عوامل البيئة الطبيعية المحيطة بها، ويتمثل في: * اختيار موقع المدينة بدقة متناهية (الموقع العالي)، فقد شيدت حول هضبة أم ناصر بشكل متلاصق، وفي أعلى الوادي؛ تفاديًا لمخاطر عوامل البيئة الطبيعية (مياه الأمطار). * الأسوار العالية. * مكان البوابات (سور) في اتجاهات المدينة الجغرافيةالمخلتفة. * رصف الأزقة بالحجارة لتصريف مياه الأمطار؛ تجنبًا لهدم وانهيارات المنازل، والاستفادة منها اقتصاديًا في عمليات ري المزارع. 2- تشكل الموارد الطبيعية (الحجارة والطين والأخشاب) عماد مكونات بناء العمارة في العلا، وقد استطاع الفنان المعماري التقليدي توظيفها بطريقة مثلى في تشيد العمارة. 3- أن عناصر بناء الوحدات السكنية بالعلا تتكون من مجموعة من العمليات البنائية المتداخلة والمترابطة (الأساسات، والجدران، والأعمدة، والدرج، والسقوف، والأبواب، والنوافذ، والدكة) والتي تشكل في النهاية العمارة السكنية التقليدية بمختلف وحداتها ذات الوظائف والأغراض المختلفة. 4- تشير الدراسة إلى أن التراث العمراني في العلا تعرض ويتعرض للدمار والتهديد بالزوال والاندثار؛ جراء المخاطر والمهددات الطبيعية والبشرية المتمثلة في عوامل التعرية، وقيام الإنشاءات الجديدة (تشييد الشارع العام لمدينة العلا الحديثة أدى إلى هدم البوابات التي تقع في الناحية الشرقية من البلدة القديمة). هذا بالإضافة إلى قلة الوعي لدى المواطنين بأهمية مواقع التراث العمراني بالمنطقة. 5- من أجل المحافظة على التراث العمراني في العلا القديمة لابد من اتباع سياسة الحماية المتكاملة المتمثلة في اتباع برنامج إدارة مواقع التراث العمراني كآلية مثلى لإدارة تراث منطقة الدراسة، هذا بالإضافة إلى تكامل وتضافر الجهود الرسمية، المتمثلة في الهيئة العليا للسياحة والآثار، والشعبية (المواطنين) والجامعات والمؤسسات التي تعنى بالتراث الثقافي من أجل العمل معًا لحماية وصون مواقع التراث العمراني في العلا القديمة. توصيات الدراسة كذلك أوصت هذه الدراسة بأن الحفاظ على التراث العمراني في البلدة القديمة (العلا) وحمايته وترميمه وصيانته وإعادة تأهيله يتمثل ببرنامج رؤية تكاملية شاملة ترضي جميع الأطراف (المالك والمستثمر والهيئة العليا للسياحة والتراث، بصفتها المسؤول الأول عن التراث في المملكة العربية السعودية) وتتفق مع القوانين والأنظمة المحلية والدولية. ويهدف هذا البرنامج إلى تطوير البلدة القديمة في العلا، وإلى المحافظة على النسيج العمراني للمعالم التاريخية الأثرية، وإعادة توظيفه بما يخدم الأنشطة المختلفة، وتوفير مقومات التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بالمنطقة، وإلى تشجيع الاعتماد على الخبرات المحلية في التنمية الاقتصادية وتشجيع استثمارات القطاع الخاص في المشاركة في التنمية العمرانية. مقترحات للحفاظ على البلدة القديمة واشتملت دراسة الزهراني على بعض المقترحات للحفاظ على البلدة القديمة وتنميتها، تبرز في سياق قوله:“بحكم الوضع الراهن لمباني البلدة القديمة ونسيجها العمراني وحالة مبانيها سياسات الحفاظ، التي يشترط أن تتفق مع المواثيق والأنظمة الدولية الخاصة بهذا المجال، ولضمان استمرارية الوظيفة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للبلدة القديمة، وكذلك لإمكانية تسجيلها مستقبلًا ضمن قائمة التراث العالمي باليونسكو، يجب أن تشمل عملية الحفاظ كل ما يحفظ للموقع نسيجه وطابعه العمراني وفق المنهج العلمي المتفق عليه في اليونسكو، وهي الحفظ والصيانة والحماية والترميمم وإعادة التأهيل (السياسة المقترحة للحفاظ على البلدة القديمة، للباحث تحت الإعداد”. واضعًا عددًا من الأسس العامة للمحافظة على البلدة القديمة ضمنها في قوله: “للمحافظة على المعالم التاريخية لابد من احترام الأسس العامة التالية: 1- أن الهدف من ترميم وصيانة وحماية وإعادة تأهيل البلدة القديمة هو المحافظة عليها (الميثاق الدولي لإدارة التراث 1990م المادة السادسة)، وصيانتها بصورة دورية. 2- أن المحافظة على البلدة القديمة يشمل المحافظة على أصالتها، وللأصالة جوانب رئيسة يجب احترامها جميعًا، وهي الأصالة في المواد والتصميم... إلخ (كما نصت عليه وثيقة نارا - اليونسكو 2005م). 3- إن المحافظة على البلدة القديمة يجب أن تتم وفق المعايير والقوانين والمواثيق المحلية والدولية (ميثاق البندقية 1964م، وميثاق لاهور 1980م، وميثاق واشنطن 1987م وميثاق نارا 1994م). 4- إتباع الشروط والمعايير الدولية في اختيار وظيفة إعادة استخدام البلدة القديمة (انظر ميثاق البندقية مادة رقم 5) مع دراسة الجدوى الاقتصادية. 5- هناك أمور إدارية خاصة بكل منطقة يجب أخذها في الاعتبار، مثل وضع خطة مدروسة معدة من قبل فريق من عدة مختصين (معماري، ومهندس مدني، مهندس إنشائي، اختصاصي آثار، اختصاصي عمارة أثرية وتاريخية، مرمم معماري، مرمم آثاري، ممثل للإدارة المحلية... إلخ)، قد نحتاجهم جميعًا أو بعضهم حسب نوع المعلم التاريخي، مع أخذ الموافقة عليها من الجهات المعنية، ويجب تقسيم مدة تنفيذ الخطة إلى فترات طويلة (من خمس سنوات إلى ثلاثين سنة)، ومتوسطة (من سنة إلى أقل من خمس سنوات) وقصيرة المدى ( أقل من سنة).