اذا كنت من عشاق الفنان الاسباني خوان ميرو ولوحاته الكبيرة المبهجة بألوانها وتصاميمها، فإنك قد لا تستوعب خبراً عن معرض منحوتات كبير، لهذا الفنان الذي طالما حفلت بريطانيا بمعارض لرسومه... إلا أن ميرو يحضر بخامات مختلفة هذه المرة وبنوع فني مختلف يروي جانباً غير معروف كثيراً في تاريخ هذا الفنان الاسباني الشهير الذي تروي سيرته الفنية انه طالما اراد تحطيم الرسم لمصلحة النحت، غير ان شهرته في الحقيقة تركزت على النوع الاول. في هذا السياق تستضيف حديقة يوركشير البريطانية للنحت، اول معرض كبير للفنان خوان ميرو (1893-1983) متيحة الفرصة لمحبيه ومحبي النحت للاطلاع على قطع نحتية ضخمة لم تكن رؤيتها متاحة إلا في متحفه في برشلونة او في متاحف جزيرة مايوركا مسقط رأسه. قال ميرو مرة: «عندما اكون في الريف لا افكر بالرسم البتة، فالنحت هو الذي يجذبني، ولعل منحوتاتي تُفهم على انها شجر، صخر، جذور نباتية، جبال، نباتات او زهور». تحدث خوان ميرو في حوارات قليلة عن طريقة عمله على خامات الطبيعة وقال: «أنجذب الى خامة ما بطريقة تلقائية لا أتعمدها، ثم اجد نفسي منجذباً الى قطعة اخرى فأشعر بعلاقة خفية بينهما، تتنتج أثراً شعرياً». وهو حارب الرسم التقليدي، لأنه اراد أن يدمج نوعين من الفن، فكان من رواد الأشكال الهندسية والكتل التي تشبه النحت داخل اللوحة. لكن منحوتته استفادت ايضاً من رغبته في كسر القيود المفروضة على طريقة النحت. ميرو خلق ليكون متمرداً، ففي سن التاسعة عشرة وهو ابن صائغ فضة عاند رغبة والده ودخل كلية الفنون في برشلونة، وهناك تأثر بأستاذه فرانسيس غالي الذي كان اشتهر كأحد رواد التيار الحداثي في مرحلة ما بعد التعبيرية والرمزية وانتهى الى التكعيبية. على هذا الاستاذ تعلم الشاب ميرو ان يلمس بأصابعه القطعة التي يريد ان يرسمها بدل ان يحدق فيها ببصره، كان يرسم من اللمس لا من النظر. تجربة قال عنها مرة وهو في منتصف العمر: «الآن وبعد ثلاثين سنة أستعيد لمسة الرسم تلك في النحت والحاجة لأن اعرك قطعة الصلصال مثلما يفعل طفل وهي في يده. انا أحصل من هذه التجربة على حسيّة مادية لا أتحصل عليها من الرسم». ويرى بعض النقاد ان ميرو أوجد لنفسه عالماً من الكائنات والأشكال تتجاوز ما فعله بيكاسو وتصل احياناً حد الغرابة، مثلما حصل مع منحوتة «تذكارات من برج ايفل» التي تبدو كأنها تجميع من المرمي على سقيفة البيت، على حد تعبير احد النقاد. لقد أنجز اهم القطع المعروضة في حديقة يوركشير وهو في سبعينات او ثمانينات عمره، انه واحد من الفنانين المعاصرين الذين تحولوا الى البرونز والمعدن في آخر حياتهم، مثلما فعل السوريالي الآخر ماركس آرنست. ويصف الناقد الفني في صحيفة «ذي غارديان» الفنان بقوله: «لا يزال داخل الرجل العجوز شيطان سوريالي يلقم النار». وعلينا ألا ننسى ان ميرو من رواد حركة السريالية في باريس قبل الحرب العالمية الثانية والتي كانت ترى ان الجمال يجب ان يقدم بطريقة غير منطقية، ومن قطع يجدها الفنان صدفة في سوق الخردة مثلاً، هذه القطع هي التي تختار الفنان من اجل العمل الفني وليس هو الذي يختارها. انجز ميرو في تلك الفترة ببغاء محشوة، حذاء دمية، قبعة وخريطة، وغيرها من أشياء لا تشبه الواقع ليعبّر عن رؤى حلمية غرائبية. هذه الأعمال الهشة الصنع أُنجزت بغالبيتها في فترة الثلاثينات من القرن العشرين، لكنها لم تحتمل نقلها وإعارتها الى معارض خارج مكانها الاصلي، اماكن مثل نيويورك. في السبعينات والثمانينات لفت ميرو الانتباه بإنتاجه الفني بصورة ملحوظة، وكلف بمشروعات لمؤسسات كبيرة، وبتصاميم للخطوط الجوية الإسبانية. غامر كثيراً وأنجز اعمال كولاج ومنحوتات مركبة، حتى انتهى الى النحت الذي اضحى مركز مسيرته المهنية منذ الستينات تقريباً حتى رحيله اول الثمانينات وكان يصر على ان مكانها الحقيقي هو الاماكن المفتوحة. لكنه في السنوات الاخيرة ترجم كل هذا الى برونز في محترفه، في مسقط رأسه (جزيرة مايوركا الاسبانية) وغالباً بحجم نصب تذكاري. وهي اعمال مناسبة لحديقة مخصصة لهذه القطع حيث تستلقي في مكان قريب داخلها على تلة معشبة خضراء تطل على بحيرة قريبة تضم منحوتات هنري مور وغيرها من منحوتات فنانين بريطانيين تتوزع في الحديقة التي باتت تعرف كأفضل معرض فني مفتوح في هذا البلد، في الهواء الطلق وفي منتصف الطبيعة.