تحل اليوم الذكرى ال37 لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، في ظل توتر أمني تعيشه دول مجاورة، واستعادة طبق الأصل لمشاهد الحرب اللبنانية في مدن سورية، تعاني الدمار والقتل والخطف والتهجير. صحيح أن الحرب اللبنانية انتهت عام 1990، وأزيلت معها السواتر الترابية من الشوارع، ومن خطوط التماس، لكنها انتقلت للعيش في الذاكرة الجماعية للبنانيين. طويت صفحة الحرب من دون أن نتعلم منها ما يجب الاستفادة منه، فوقع اللبنانيون مجدداً في الأخطاء ذاتها. عادت الاغتيالات، وبات الخطف مهنة من لا مهنة له، وصار التعامل مع الآخر - الشريك في الوطن حذراً ومنمّقاً خوفاً من الانتقام. ولأن نسيان الماضي ومحوه من الذاكرة أمر مستحيل، تعمل جمعيات ثقافية وأهلية لبنانية على التذكير دوماً بفلسفة الحرب للتعلم من الأخطاء، والإضاءة على بشاعة تلك التجربة. هكذا، أطلقت «جمعية أمم للتوثيق والأبحاث»، بالتعاون مع برنامج الأممالمتحدة الإنمائي - مشروع «تعزيز السلم الأهلي في لبنان»، وبالشراكة مع بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان، مشروع «الباص إن حكى... رحلات في ذاكرة لبنان واللبنانيين»، في رعاية رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، في «هنغار» الجمعية في الضاحية الجنوبية لبيروت قبل ظهر أمس. «البوسطة الراقدة» يُعتبر الباص في الذاكرة اللبنانية القريبة، مرادفاً للقتل والرصاص، إذ انطلقت الحرب الأهلية اللبنانية بعد حادثة «بوسطة عين الرمانة». هذه البوسطة التي تحوّلت رمزاً للحرب، عرضت هي ذاتها في الهنغار، حيث «رقدت» بصمت وخجل. احتشد الزوار حولها، تأملوها، أنعموا فيها النظر، لكنها كانت «أجبن» من أن ترد أو تروي ما حصل عام 1975. البوسطة التي أشعلت الحرب، باتت هرمة، لا تقوى على السير. هذا الجماد بكل ما فيه من رمزية، أعاد إلى الأذهان مشهد الهجوم على هذا الباص، والأصوات التي علت مستغيثة قبل اختناقها. رقدت البوسطة خلف الهنغار، كما ترقد الذكريات السيئة في العقل الباطني، لا تُمحى، بل تغفو إلى أن يوقظها تلميح أو إيماءة. أرادت «أمم» من مشروعها ترجمة «أقوال» البوسطة الصامتة، استنطاقها. فعملت مع شركائها على العديد من الأفكار، إلى أن تبلورت الخريف الماضي فكرة شراء باص كان يسيّر على خط صيدا - بيروت، وتحويله من باص عادي إلى وحدة جوالة تضم أرشيف «أمم» عن الحرب الأهلية، من يوميات وأحداث ورصد للضحايا والمفقودين والمرتكبين والمشاركين والفاعلين والمحرضين، ولكل ما اتصل بتلك الأيام السوداء، وأمكن جمعه، من وثائق إعلامية وصور وملصقات وشعارات. كما جُهّز الباص بعتاد توثيقي، هو عبارة عن مكتبة «رمزية» وأجهزة كومبيوتر محمولة موصولة بأرشيف «أمم»، إضافة إلى ماسح ضوئي وأدوات تسجيل سمعية وبصرية. ووضع جدول بنشاطات للأطفال والشباب والراشدين، تتناسب مع طبيعة المحطات ال 12 التي سيزورها الباص قريباً، بالتنسيق مع وزارة التربية، وعدد من المدارس الخاصة. يختلف الباص القديم كثيراً عن الباص الجديد. فالأول كان ضحية، على متنه أبرياء سقطوا وما كان أحد ليتخيل أن المجزرة التي لحقت بهم ستمتد إلى ربوع الوطن، وستستمر 15 سنة طويلة. ما كان ليخطر في بال أحد أن ما أصابهم سيكون علامة ونذيراً، عالقاً في كتب التاريخ (التي لم يتفق اللبنانيون حتى اليوم على صيغتها ووقائعها حتى في الكتب المدرسية)، وفي الذاكرة الجماعية. منذ الحادث - المجزرة، أحيل الباص الأول على التقاعد. أما الباص الجديد، بكل ما فيه من تطوّر وتكنولوجيا، فيؤدي أيضاً دور الشاهد على الحرب الأهلية... على طريقته. فخلال آلاف الرحلات التي سار فيها بين بيروت وصيدا، حمل ربما مطلقي النار على الباص الأول، كما قد يكون استقله قناصة وخاطفون ومغتصبون وسارقون ومذهبيون ومصابون وضحايا، من حوادث قديمة وأخرى وقعت في «أيام السلم الأهلي». حمل الباص الثاني احتمالات كثيرة مُرّة تُحيل إلى هشاشة السلام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في بلد يفترض أن إطلاق النار فيه توقف قبل أكثر من عقدين. لذلك كان لا بد للمشروع البحث عن مرادف لرمز «شرارة الحرب»، أي باص 13 نيسان (أبريل) 1975، وتقديمه بصورة مختلفة. تكنولوجيا تستحضر الماضي جُهّز الباص الثاني، الجديد، ليروي كل ما عجز عن قوله الباص-الضحية. تغير الشكل كثيراً، فبات أقرب إلى لوحة فنية. طلي من الخارج بلون أحمر، مع خلفية لعناوين صحف صادرة عام 1975، تدين الاعتداء على بوسطة عين الرمانة، وصور لمقاتلين وعناوين إلكترونية لمشاريع وأبحاث أجرتها «أمم» حول السلم الأهلي وأسماء المخطوفين الذين لم يكشف مصير كثيرين منهم حتى الآن، وما زال اختفاؤهم لغزاً بالنسبة إلى ذويهم الذين يحارون بين الأمل بعودتهم أو استكمال لا يصح لحداد لا يعرف صاحبه أين دُفن عزيز فقدَه. وإضافة إلى كل ما تقدم، صورة للبوسطة القديمة، وتبدو على زجاجها الأمامي آثار الرصاص الذي اخترقها. أما في داخل الباص الجديد، فأزيلت مقاعد الركاب لاستغلال المساحة في ابتكار مكتبة رمزية. من الداخل، يبدو المشهد أعمق، إن صح التعبير. رفوف عليها مؤلفات لكتّاب لبنانيين غاصوا في متاهات الحرب الأهلية، وأجهزة كومبيوتر محمولة، متصلة بأرشيف «أمم» من أبحاث ودراسات وصور، ستكون في متناول الزائرين. ويندرج المشروع في إطار مشاريع كثيرة تعمل عليها «أمم» لمصالحة اللبنانيين مع ذاكرتهم، بحيث لا ينسون ما حصل بل يتعلمون منه. ولا تعمل الجمعية وحدها، في هذا المجال، إذ أن أكثر فناني جيل ما بعد الحرب يحاولون استنطاق كل ما له علاقة بها، مقدمين أفلاماً سينمائية وأعمالاً تشكيلية وفوتوغرافية وتجارب موسيقية، في محاولة لنبش الذاكرة، والعودة إلى الماضي، والبناء عليه ليكون الحاضر والمستقبل أكثر إيجابية وطمأنينة. لقمان سليم وروبرت واتكنز اعتبر الممثل المقيم لبرنامج الأممالمتحدة الانمائي في لبنان، روبرت واتكنز، خلال الاحتفال بإطلاق المشروع إنه «مبادرة خلاقة تسعى الى تقريب وجهات نظر الناس حول قضايا الماضي الصعبة من أجل بناء مستقبل أكثر إشراقاً». وأوضح ان «الوقت كفيل بمحو الجروح، من خلال فهم الماضي، وطرح أسئلة مؤلمة وتقبل الأجوبة الصعبة، والعمل على كتابة مستقبل جديد». وشكر مدير «أمم» لقمان سليم لرئيس الوزراء اللبناني رعايته الحدث، وقال إن «فئة كبيرة من اللبنانيين تعيش في سِلْم ناقص، سلم أشبه بجهد متواصل للحفاظ على الأمن بدلاً من السلام». وأضاف: «لا يكاد باص يمضي في سبيله، أو يبدو كأنه خرج من المشهد، حتى يسارع باص آخر الى ملء الفراغ». ودعا جيران لبنان الى الاستفادة من التجربة اللبنانية في طلب السلام المستدام، «حتى في حَبوِها وتأتأتها وإخفاقاتها»، كما دعا إلى «إعادة القراءة» مع فتح باب التأويل والاجتهاد على مصراعيه.