للوهلة الأولى تبدو تسمية «البوسطة» التي أطلقتها المخرجة نادين لبكي على أول أفلامها السّينمائيّة، وكأنّها مستوحاة من الحرب اللبنانيّة التي بدأ مع حادث بوسطة عين الرمّانة، التي أشعلت شرارة حرب استمرّت 15 عاماً. غير أنّ أحداث الفيلم تسير في منحى آخر، على الرّغم من أنّها تتناول في بعض أجزائه مراحل صعبة من تلك الحقبة السّوداء في تاريخ لبنان. تدور الأحداث حول الشّاب اللبناني كمال الذي يعود إلى بيروت بعد خمسة عشر عاماً من المنفى في فرنسا لهدف واحد، إعادة إحياء فريق الدبكة الذي سبق وأنشأه مع زملاء الدراسة، الذين لم ير أحداً منهم منذ ذلك الزمن. يريد اليوم، ليس فقط استعادة هذا الفريق الغائب، بل الإقدام على خطوة جريئة تتمثل بتطعيم موسيقى الدبكة التقليدية بنكهات غربية. فعندما تقدّم الرّاقصون للرقص أمام لجنة مهرجان الدّبكة الوطني، رفضوا بحجة أنّهم يلحقون الضرر بالمثال الثقافي الوحيد المتبقي. هذا الموقف دفعهم إلى تجديد باصهم المدرسي القديم ومباشرة جولة في المدن والقرى اللبنانية لتأدية دبكتهم الطّليعيّة أمام الجمهور. في صراعهم لإقناع الجمهور بالروح الجديدة التي يبثونها في هذا التّراث اللبناني القديم، يدرك كل واحد منهم أنّه يبحر أيضاً في رحلة شخصيّة يستعيد فيها طفولته، أصدقاؤه المتبقّون والذين رحلوا، آلام الحرب والانفصال... رحلة تقود مجموعة الأصدقاء القدامى إلى فتح صفحة الماضي الأليم. «البوسطة» هو رحلة موسيقية تقود المشاهدين في رحلة رائعة عبر مختلف المناطق اللبنانية... رحلة تصاحبها إيقاعات الصّوت والرّقص الطّليعي المميّز، في رؤيّة جديدة للمخرجة نادين لبكي في أوّل تجربة سينمائيّة لها، بعد أعمال ناجحة في مجال الإعلانات والفيديو كليب. كان الباص أو البوسطة بالتعبير اللبناني، الممثل الأكثر طرافة في الفيلم، فقد روى لنا المخرج فيليب عرقتنجي ضاحكاً، أنّ الباص كان يتعطّل باستمرار، ينفث الدخان عالياً من دون انقطاع، وقد كلّف أربعة أضعاف ما كان مرصوداً له. يقول «تطلّب الأمر شهوراً عدّة لإيجاد الباص الذي كان في ما قبل مستخدماً في النقل العام. حالياً لا يوجد في لبنان، أكثر من ثلاثة إلى أربعة باصات مشابهة». يؤدي رودني الحداد دور كمال، وهو الدور الرئيسي في الفيلم. والممثّل الشّاب خرّيج معهد التّمثيل وقد سبق له أن نال جائزة «القمر الذهبي» عام 2000 عن أفضل تمثيل في الفيلم القصير «موسيقى على القمر»، وهو في صدد نشر ديوانه الشعري الأول الذي انتهى من كتابته مؤخراً. أمّا نادين لبكي، فتؤدي دور عليا، وهو دورها الأول في فيلم روائي، سبق لها وأن أدّت أدواراً في عدّة أفلام قصيرة. ومن الممثّلين المشاركين في العمل، ندى أبو فرحات، عمر راجح، بشارة عطالله، ليليان نمري، منير ملاعب، محمود مبسوط، رنا علم الدين، مع إطلالة مميّزة للفنّانة رويدا عطيّة التي تغنّي أغنية في الفيلم. ترى جريدة الدايلي ستار أنّ الفيلم هو أكثر الأعمال السينمائيّة جهداً وإثارة للجدل في تاريخ السينما اللبنانية. فقد اتّخذ المخرج فيليب عرقتنجي قراراً بالذهاب إلى المموّلين الإقليميين، متجنباً المصادر المعروفة في تمويل الأفلام، والتي يلجأ إليها اللبنانيون عادةً، كوزارة الثّقافة أو المحطّات التلفزيونيّة أو بعض المنتجين المغامرين. كان قراره مستنداً إلى طبيعة الفيلم الذي ينتجه. يقول في هذا الصدد «أصبحت منتجاً لأنه لم يكن لدي خيار آخر». تقوم هذه الإستراتيجية التي بدأتها شركة التمويل العربية (afc) على قاعدة تمويل جديدة تدعى شهادات استثمار. خلافاً لمنطق الاسهم، تعطي هذه الشهادات المستثمرين الحق في الحصول على مداخيل في المستقبل، لكنها لا تعطيهم حق التصويت. هذا يعني أنّه يهم الأولويّة في توزيع الدّخل النّاجم عن الأفلام وذلك حتى استعادة المبلغ الأصلي الموظف في الاستثمار. باختصار، الفيلم عبارة عن قصّة أصدقاء دراسة سابقين ،عادوا فالتقوا مع بعضهم، ليتصالحوا مع زمنهم الضّائع، و يستعيدوا طفولتهم الضّائعة التي سرقتها الحرب. إنّها رواية جيل كبر بسرعة، نسي الحياة والبهجة. «البوسطة» هي رحلة في ذاكرة لبنان كما يقول المخرج، ويوضح أنّ الشخصيات في الفيلم تعمد إلى استعادة باص المدرسة القديم، بعد طلائه للذهاب به في رحلة تستعيد ماضيهم. مجازياً، عندما كانوا يدهنون الواجهة المحترقة للباص، فإنهم في الواقع كانوا يعملون على محو جروحهم. ليس فيلم «البوسطة» فيلماً عن الحرب، انه فيلم عن الاجيال التي اختارت أن تتجاوزها الى مكان آخر. التصوير استمر 50 يوماً، ولم يخلو من صعوبات خصوصاً أن الميزانيّة كانت محدودة نسبةً إلى موضوع الفيلم. فيلم «البوسطة» تجربة جديدة من نوعها، وسيبدأ عرضه قريباً في كل صالات السّينما اللبنانيّة.