الكثير يؤمن بنظرية علم النفس بأن للإنسان عقلاً باطناً يظهر على السطح في حالات معلومة كحال النوم أو الثمالة أو سكرة الموت، ويكشف عن طبيعة النفس البشرية التي تتظاهر بخلافه في كثير من الأحيان، لكنّ القليل يعي بأن الأمم والشعوب كذلك لها عقل باطنّ لا يموت بموت الأفراد، بل هو دائم بديمومة هذه الأمم، وهو العنصر الفاعل والموجه والمفسر في كثير من الأحيان لكثير من الأحداث التي تعاصرها الشعوب في علاقتها مع الثقافات والشعوب الأخرى، وهذا العقل الباطن للشعوب والأمم، على رغم مخالفته للظاهر في كثير من الأحيان إلا أنه يظهر على السطح في حالات كالجهل والتخلف واختلاط الأمم والثقافات ببعضها البعض، أو في حالات الانتصار والقوة، فما حدث في سجن أبو غريب بعد الغزو الأميركي للعراق يفسر طبيعة العقل الباطن لأميركا التي جاءت بحجة تحرير المواطن العراقي من نظامه المستبد! ولذا فكثير ما تهوى الجماهير ما يشاع على السطح من المواقف المعلنة، أو ما يعرف بال «بروباغاندا الإعلامية»، التي تعتبر هي المعطي الأكثر ملاءمة للجماهير لتفسير الأحداث الدولية وحدود المصالح البراغماتية بين الدول، لكنّ العقل الباطن للشعوب هو ما يمكن من خلاله درس العلاقات الدولية في ما يعرف لدى المؤسسات البحثية والسياسية باسم «النظريات السياسية» التي لا تتعامل مع الظواهر السياسية والإعلامية فحسب، بل تتجاوز ذلك للبحث عن خلفيات المشاريع والمنظمات الدولية وما تهدف إليه. في الحال السورية القائمة مثلاً أصبحت القضية الطائفية هي المعطى الأساسي للتحليل والمواقف التي نقرأها ونسمعها بشكل يومي، فالكثير من التحليلات السياسية - العقدية تنطلق من قضية أن إيران تقوم بدعم لوجستي وسياسي ومالي في سبيل حل الأزمة القائمة سياسياً بإصلاحات تضمن بقاء نظام الأسد مدة أطول، وهو النظام المتوافق معها أيديولوجياً، وتستعين في ذلك بروسيا والصين بحكم علاقاتها المتينة معهما، وكذلك أميركا والاتحاد الأوروبي، ترى أن تغيير النظام الأسدي قد يضر بالمصالح الأميركية بالمنطقة وبأمن إسرائيل. ومن هذه المقدمة المتيسرة الفهم يمكن تفسير الحراك السياسي - الديني لإثارة القضية الطائفية وتوسيع دائرتها، ظناً بأن ذلك يمكن أن يسهم في حل هذه الأزمة، وهناك اتجاه آخر للتحليل يرى بأن هناك علاقة استراتيجية تجمع بين أميركا - إيران، وتحالفاً خفياً كان له نتائج واضحة في الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، ومن ثم استبعاد أي تحرك أميركي - أوروبي عسكري ضد إيران أو مصالحها في المنطقة كسورية. سنحاول في هذه المقالة أن نبحث في العقل الباطن للتواطؤ الدولي والإقليمي من القضية السورية، فموقع سورية الجغرافي بين مشروعين «الأميركي الصهيوني، الصفوي»، هو النقطة الأبرز لحساسية هذه المنطقة، فالقضية إذاً قضية مشاريع أممية في هذه المنطقة، وهي قضية سياسية أممية بالدرجة الأولى، وليست قضية طائفية،كما يروج لها البعض، فسورية تعتبر ذات بعد استراتيجي في المشروع الصفوي في المنطقة، وهذا ما يظهر من خلال «الأفق العشريني»، وهي الخطة الإستراتيجية الإيرانية التي تفترض أن تكون إيران بحلول عام 2025 هي الأولى اقتصادياً وعلمياً وتقنياً على الصعيد الإقليمي، وجعلت صحيفة «كيهان»، الناطقة باسم المرشد الأعلى للثورة الإيرانية بأن الأولوية للمشروع الإيراني في منطقة الخليج العربي «الفارسي»، ومن ثم في منطقة الشرق الأوسط «العربي»، فإيران تعي بأن تحركها في الشام يمر بعقبة تقاطع المصالح في هذه المنطقة مع المشروع الأميركي الصهيوني الساعي للحفاظ على سلامة إسرائيل وحدودها، لذا جعلت منها أولوية ثانية في مشروعها، لكنّ الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فالانتفاضة الشعبية في سورية أربكت الأجندة الإيرانية، التي كانت ترى أن نظام سورية تابع للنظام الإيراني، خصوصاً بعد النفوذ الإيراني في عراق ما بعد صدام، ومن ناحية أخرى فأميركا والاتحاد الأوروبي يسعيان لأن تكون هذه المنطقة من العالم داخل السيطرة الدولية، وأن أي حراك شعبي في هذه المنطقة سيكون أشبه بالنار الواقعة في الهشيم، التي لا يمكن تخيل مآلاتها، ومن جهة أخرى فإيران حليف استراتيجي لأميركا، وما يثار في الأوساط الإعلامية من مناوشات بين الطرفين، وتهديدات وعقوبات، إنما تتم في العلن لتضليل الرأي العام وإقناع العالم بأن العلاقة الأميركية - الإيرانية على شفى جرف هارٍ وإلا بماذا يُفَسر الصمت الأميركي على عمليات تخصيب اليورانيوم الإيراني لسنوات طويلة وإيران تقوم بذلك في العلن، في الوقت الذي أطاحت فيه أميركا بنظام صدام حسين لمجرد اشتباه امتلاكه للأسلحة المحظورة دولياً! ليس معنى هذا أن العلاقة بين الطرفين ستظل كذلك بصفة أبدية، بل هي علاقة مرحلية وتقاطع مصالح لا أكثر، فالسياسة الدولية اليوم تحكمها ال«براغماتية»، فأثناء الحرب الأميركية على العراق تم تسليم إدارة الوضع الداخلي في العراق لإيران، وفي الوقت ذاته لم تشكر إيران لأميركا هذه الهدية، بل كانت إيران تدعم بعض فصائل المقاومة السنية بالسلاح والمال، لأنها تريد ضرب أميركا من الظهر وإضعاف قوتها واستغلال الأزمة لضرب عصفورين بحجر: إدارة شأن العراق، وإرهاق أميركا مالياً وعسكرياً بالخسائر، وفي السياق البراغماتي ذاته يفهم الموقف الأميركي الداعم للأصولية الإسلامية في أفغانستان، وكيف أن أميركا كانت تسمح للدعاة بإقامة المحاضرات في أميركا لدعوة المسلمين للذهاب لقتال الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وبعد انتهاء تقاطع المصالح مع الأصولية الإسلامية رأت أنه لابد من القضاء عليها لأنها تهدد الأمن الدولي! هي مسألة مصالح وقتية فقط، وتحالفات استراتيجية لفترات زمنية معينة ومن ثم يخرج العقل الباطن في حالات الانتصار والقوة كما يتضح من كل ما سبق. وتجاه هذه الصورة المعقدة من الأزمة فإن التعامل مع هذه الأزمة لا يكون بمجرد تحريك قضية الطائفية وإثارة السجال الطائفي عبر وسائل الإعلام والقنوات المتخصصة والمواقع الإلكترونية، فالتعاطي مع السياسة الدولية والأحداث الجارية يجب أن ينطلق من رؤى استراتيجية واضحة - بعيدة المدى تسعى لحل الأزمات الراهنة والمستقبلية في آن واحد، ومن هنا يمكن أن أشبه ما يغلب اليوم على السطح في التعامل مع هذه الأزمة بالجبل الجليدي الذي ظهر لنا رأسه الجليدي، فانشغلنا بالرأس الجليدي (القضية الطائفية) وتناسينا الجبل الجليدي العريض الذي يمتد في أعماق المحيط. فنحن اليوم أمام مشاريع أممية تتقاتل للفوز بهذه المنطقة الجغرافية وإثبات قوتها لإدارة الصراع، ولذا هل دورنا فقط أن نهاجم الشيعة كطائفة، وأن نجعل من الأزمة مواجهة بين «السنة والشيعة» فقط؟! أم أن نكتفي بكتابة البيانات أو إقامة ملتقيات لنصرة أهلنا في سورية؟ هل الحل أن نستمع كل جمعة لخطب رنانة تعبئ الناس طائفياً وتستفز جميع الطوائف ضدنا؟ الحل لا يمكن أن يكون فردياً، أو أن تقوم به مجموعة من دون أخرى، بل هو مشروع نهضوي يجب أن تتوافر فيه «الإرادة» و«الإدارة» كذلك، ويجب أن تتضافر فيه شعوب الخليج العربي ككل، وهي المنطقة المعنية من العالم بكل هذه الموجة من التعقيدات، ويمكن أن أقترح الحل في اتجاهين: - تفعيل مبادرة الملك عبدالله لإقامة اتحاد خليجي، وتفعيل هذا المشروع ليكون مشروعاً نهضوياً يقاوم المشروعين الصفوي والأميركي في المنطقة، وألا يكتفي بالحل الإستراتيجي السياسي والأمني فقط، بل يجب أن يكون مشروع الاتحاد فكرة كونفيديرالية تسهم في الارتقاء بالمنطقة من نواحٍ «سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية»، فالمرحلة تستلزم من دول الخليج الظهور بمظهر الندّ في ظل هذه المشاريع الكبرى لتطويع المنطقة لمصالحها. - دعم المؤسسات والجمعيات الأهلية التي تقوم بدور كبير في هذه الأزمة من ناحية إغاثية وإنسانية واجتماعية، وتوفير أجواء صحية لعمل مثل هذه المؤسسات المدنية، لتتحول حماسة الشارعين الخليجي والعربي تجاه هذه القضية إلى شكل عمل مدني، تقوم عليه المؤسسات والجمعيات المدنية والأهلية، وبذلك نتحول إلى مجتمع مؤسسات مدنية يتحمل مسؤولية نصرة القضية السورية من جهة، ويخفف من الضغط السياسي القائم على حكومات المنطقة من جهةٍ أخرى. وبوضوح استراتيجيات العمل الخليجي الموحد سيكون من السهل التعامل مع الأحداث الطارئة كالأزمة السورية مثلاً، لا أن نكتفي بمجرد المشاهدة، كما حدث في العراق، فسورية اليوم يمكن أن تكون عراقاً أخرى بيد المشروع الصفوي الكبير، الذي يسعى للنفوذ في المنطقة. وأخيراً أنقل تعليقاً نشرته «الواشنطن بوست» في 28 - 5 - 2011 لمنى يعقوبيان، وهي خبيرة سابقة في شؤون الشرق الأوسط لدى قسم المعلومات التابع لوزارة الخارجية الأميركية، تقول «إن سورية تعد أهم بوابة للعالم العربي بالنسبة لإيران، وخط مواجهة مع إسرائيل... إنه إذا ما خسر الإيرانيون النظام السوري فإن ذلك سيشكل نكسة كبيرة لإيران». * مستشار قانوني. [email protected] @magedAlgoaid