حين يُقال إن ما يفعله النظام السوري بشعبه أو ما فعله القذافي مثلاً بأبناء بلده تخطّى في بشاعته بعض جرائم إسرائيل، يعترض البعض على هذه المقارنة تحت حجة أنها «تُجمّل» إسرائيل أو تبيّض وجه الاحتلال الأسود. والحقيقة أنّ الظلم ظلم، وأنه أسود وبشع مهما كان الطرف الذي يقترفه، ومتى ما أدخلنا الاستثناءات نكون، في الحقيقة، قد تورطنا في لعبة التبرير و»أدلجة» القضايا وتقسيمها إلى كبرى وصغرى. وهي أساليب فتّاكة لتزييف الوعي والتاريخ والهروب من جرأة تسمية الأشياء بأسمائها. وإذا كان هناك من يأخذ على الزعيم الدرزي وليد جنبلاط تقلبه المستمر بين الحلفاء، فإن هذا لا يمنع من التصديق على ما صرّح به قبل أيام، حين دعا دروز سورية إلى الالتحاق بثورة الشعب السوري، إذ قال لهم:» اليوم يواجه الشعب السوري الظلم، والظلم واحد لا يتجزّأ، فظلم الأجنبي لا يختلف عن ظلم محليّ، وكلاهما يلتقيان على سلب إرادة الشعوب وضرب عزيمتها والنيل من كرامتها». لعل من أهم ما قام «الربيع العربي» بتجليته وتظهيره، هو نزع حصرية الضحوية واختزالها في الفلسطينيين وحدهم، حيث تبيّن أنّ ثمة ضحايا سوريين وليبيين... لديهم «قضية» أخرى، وأولوية أخرى هي بناء أوطان ومجتمعات تؤسس لوطنية من مكونات محلية وبهموم وهواجس ومضامين محلية لا تُستل من الخارج وقضاياه الكبرى. والحقيقة أن ترسيخ فكرة أن «الظلم واحد لا يتجزأ» تعطي لخطابنا صدقية هو في حاجة ماسّة لها، وهي صدقية لا تقلل من وقوفنا المستمر في وجه الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين، وهي صدقية تتعزز حين نقول، على سبيل المثال، ونحن ندين ما فعله محمد مراح منفذ جريمة تولوز في فرنسا: إنه أخطأ وأجرم، وليس ثمة ما يبرر فعله، وفلسطين لا تتشرف بأي جريمة أو مجرم أو مستبد وظالم سواء كان محمد مراح أو النظام السوري أو غيرهما. إن «الربيع العربي» وهو يكسر حاجز الخوف من السلطات الغاشمة في سعيه نحو الحرية ينبغي أن يكسر الكثير من أغلال الوعي الزائف التي كانت تجعلنا نغض الطرف عن جرائم صدام تحت حجة أنه أطلق صواريخ على إسرائيل، أو تجعلنا نقبل بفعلة ابن لادن في 11 (أيلول) سبتمبر تحت لافتة «دعه يوجعهم كما أوجعونا»!. أزعم أن الحرية والتحرر لا تتحققان بالظلم والجرائم والاستبداد والقهر، وكما أن كل مساحيق «شانيل» لا يمكنها أنْ تجعل الاحتلال جميلاً، فإنها أيضاً لا يمكن أنْ تبيّض وجه الظلم والاستبداد والديكتاتورية، ناهيك عن أن «ظلم ذوي القربى أشد مضاضة». وإذ يرسّخ «الربيع العربي» فكرة أن «الظلم واحد لا يتجزأ»، فإن في تفاصيل ذلك توافقاً على مبدأ إدانة العنف، حيث إنّ أحد جذور الوعي الذي يتواطؤ مع الظلم، هو أنه يُطْري ويمجّد العنف والعسكرة تلميحاً أو تصريحاً، ويبني صروحاً لجنود مجهولين دون أن يحتفل بالمدنيين وممن يدعون لتهميش دوائر العنف عبر توسيع دوائر السياسة. ومن المفترض أن يكون «الربيع العربي» بداية للقطع مع عسكرة المجتمع والسياسة والحياة، باتجاه بناء مجتمعات ودول تحصّن المواطن وتجعل تقوية المجتمع خير وسيلة لمنع جور السلطات. اليوم يتراجع الوعي الذي كان يهجس بأن القضية السورية أو العراقية مثلاً تبدو سخيفة أو أقل منزلة ومصيرية إذا ما قورنت بالقضية الفلسطينية، والوطنيات العربية المتنامية بشكلها الجديد على وقع الحراكات في بلدانها، تكاد تقدّم معنى جديداً ل «مركزية» القضية الفلسطينية، يعني الاتفاق على الحق الفلسطيني في التحرر والاستقلال وزوال الاحتلال والاستيطان، دون أن تعني «المركزية» نفي الأهمية أو الأولوية عن أي قضية أخرى، ودون أن تعني غلبة الخارج على الداخل، أو السكوت على تهميش الداخل وخنقه تحت ذريعة الانشغال ب «القضية»، بل، على العكس، يبدو أن ثمة انبثاقاً لقاموس جديد يعبّر عن مرحلة جديدة تعطي لمفردة «معركة» أكثر من معنى، حيث هي على قدم المساواة نضال الفلسطينيين لبناء دولتهم ونيل استقلالهم، وهي (المعركة) نضال السوري أو اليمني... للتحرر من حكم ديكتاتوري فاسد، ومن هنا يحقّ لنا أن نسأل من يرفع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» عن أي معركة يتحدث. * كاتب أردني