تضافر العديد من العوامل في منع ارتفاع أسعار النفط من التأثير سلباً في نمو الاقتصاد العالمي ما بين 2002 و2008. فمع ارتفاع أسعار النفط ارتفع الإنفاق العسكري والحكومي والنمو الاقتصادي والمداخيل والاستهلاك فيما انخفض الدولار وأسعار الفائدة والتضخم، كما انخفضت الضرائب في الولاياتالمتحدة، أكبر سوق نفطية في العالم. ويبدو أن الفترة الحالية هي أيضاً فترة نادرة في التاريخ، فعلى رغم وجود فترات سابقة انخفض فيها الإنفاق الحكومي وارتفعت أسعار الفائدة ومعدلات التضخم، تختلف الفترة الحالية عن الفترات السابقة في أمرين: الأول هو انخفاض الطلب على النفط لأسباب تقنية بحتة، والثاني ارتفاع الدولار. فالتحليلات الإحصائية تشير إلى أن أسعار النفط الحالية مرتفعة جداً مقارنة بمستويات الدخل ومعدلات الفائدة، ومعدلات النمو الاقتصادي، وغيرها من المتغيرات الاقتصادية الكلية. ومعروف أن النفط يسعَّر بالدولار، وأن هناك علاقة عكسية بين أسعار النفط وقيمة الدولار في الأجل البعيد. لذلك من المنطقي أن تنخفض أسعار النفط إذا ارتفع الدولار. لكن ماذا سيحصل لو ارتفع الدولار ولم تنخفض أسعار النفط؟ هذا هو حلم الدول النفطية لأن ذلك سيزيد من القوة الشرائية لهذه الدول من دون رفع أسعار النفط. لكن فترة ارتفاع أسعار النفط والدولار معاً لا تطول لأن هذا المزيج سيؤدي إلى كارثة اقتصادية عالمية وسيخفض الطلب على النفط وستنخفض أسعاره. ويتلخص أكبر خطر يهدد «أوبك» في بقاء أسعار النفط مرتفعة في ظل انهيار اليورو أمام الدولار. وأول مؤشرات الخطر هو التظاهرات ومظاهر العصيان المدني في الدول الأوروبية، تماماً كما حصل عام 2000 عندما توقفت حركة السير في عدد من العواصم الأوروبية ولأيام متتالية بسبب ارتفاع أسعار المحروقات. ولو تكررت هذه الحال لن تلجأ الحكومات الأوروبية إلى استخدام الاحتياط الإستراتيجي فقط، بل ستستخدم كل أساليب الضغط على السعودية وغيرها من دول «أوبك» لزيادة الإنتاج، وسيلجأ الإعلام الغربي إلى تشويه سمعة النفط والدول النفطية والشركات النفطية... والعرب! قد يظن البعض أن الوقت ما زال هناك كافياً لتلافي مشكلة كهذه، لكن الحقيقة أن أسعار النفط في أوروبا وصلت الأسبوع الماضي إلى المستويات ذاتها التي ساهمت في التظاهرات وأعمال العنف في العواصم الأوروبية عام 2000. لذلك لا غرابة في شن وزير البترول السعودي علي النعيمي حملة إعلامية تضمنت لقاءات صحافية ومقالاً في صحيفة «فايننشال تايمز» للتأكيد على أن الأسعار الحالية خطرة على الدول المستهلكة والمنتجة، وأن السعودية تعمل جاهدة على زيادة الإنتاج بهدف خفض الأسعار، وأن لدى السعودية طاقة إنتاجية فائضة يمكن استخدامها وقت الحاجة. لهذا قد لا يكون من قبيل المصادفات توقيت الحملة الإعلامية للوزير ووصول أسعار النفط في أوروبا إلى مستويات قد تؤدي إلى تظاهرات. لكن تطمينات السعودية قد لا تكفي لأن ارتفاع أسعار النفط في الفترات الأخيرة نتج من قوى السوق التي تتضمن انخفاض الصادرات النفطية لكل من إيران والصين والسودان وسورية، وانخفاض الإنتاج في بحر الشمال، وملء الصين احتياطها الإستراتيجي. وعلى رغم هذا الواقع، ما زالت انطباعات تجار النفط والمحللين والصحافيين وشكوكهم تلعب دوراً في أسواق النفط في الأجل القريب، الأمر الذي يخفف من أثر التطمينات السعودية وقد يمنع انخفاض أسعار النفط في الشكل المطلوب وذلك للأسباب التالية: أولاً، يشكك البعض في مدى زيادة السعودية الإنتاج، وقد يمنع هذا الشك أسعار النفط من الانخفاض إلى المستوى الذي ترغب فيه الدول المصدرة للنفط. ثانياً، هناك حلقة مفرغة تساهم في منع أسعار النفط من الانخفاض في شكل ملحوظ، فإذا زادت السعودية إنتاجها بهدف خفض الأسعار ستنخفض طاقتها الإنتاجية الفائضة، وسيعني هذا الانخفاض غياب الإمدادات في حالات الطوارئ، والطوارئ حول العالم كثيرة، الأمر الذي سيرفع أسعار النفط، ربما في شكل جنوني كما حصل عام 2008. قد يؤدي استخدام الطاقة الإنتاجية الفائضة بهدف خفض الأسعار إلى رفع الأسعار، فاستخدام الطاقة الإنتاجية الفائضة قد يعني تخلي السعودية عن مقعد القيادة للمضاربين. وهناك قناعة لدى كثيرين من التجار بأن السعودية لن تتخلى عن مقعد القيادة، ما يعني أن السعودية لن تزيد الإنتاج في شكل كبير فوق المستويات الحالية، وسيعزز هذا من الشكوك في أن السعودية لن تزيد الإنتاج، ونتيجة لذلك قد لا تنخفض أسعار النفط في الشكل الذي ترغبه السعودية. وإذا استخدمت السعودية فعلاً الطاقة الإنتاجية الفائضة فإن أي انقطاع في الإمدادات لأسباب سياسية أو فنية أو طبيعية سيرفع الأسعار في شكل كبير. وعلينا أن نتذكر هنا أن موسم الأعاصير في خليج المكسيك اقترب، وأن الإعصارين «كاترينا» و «ريتا» ما زالا في الذاكرة. ثالثاً، ومما يثير الشكوك أيضاً هو رد الفعل القوي والسريع على ارتفاع أسعار النفط. فهناك أدلة كثيرة على أن صناعة النفط السعودية لا تتحرك إعلامياً إلا بعد حدوث حدث ما، فتحشد كل الجهود للرد. لكن الوقت حان لتبني برامج دائمة في الداخل والخارج لبناء رأي عام مؤيد في الأجل البعيد، بحيث تستبَق الأحداث. وأسوأ ما يمكن عمله هو القيام برد فعل سريع وقوي مضاد لوسائل الإعلام، فالهدف أصلاً يجب أن يكون التحالف مع الإعلام. * اقتصادي في شركة «إن جي بي» الأميركية.