عصارة ما خطه روسو في بحث نال عنه جائزة أكاديمية ديجون سنة 1750 أن تنمية الآداب والعلوم والفنون تفسد الحضارة والأخلاق، ما أهّله ليكون في مرمى الهجوم والانتقاد، وإن اعترف لاحقاً بوجود نواقص وأخطاء تخللت بحثه، فهل خالف برأيه ليعرِّف باسمه وقتها؟ يجوز! يجادل روسو في نشوء أصل العلوم، وأنه نتيجة للنقائص الإنسانية، فعلم الفلك بدأ مع تطيّر الإنسان وحبه للأساطير والخرافات، وعلم البلاغة للطمع والتملق والكذب، وعلم الهندسة للبخل واستغلال المساحات، والفيزياء للاستطلاع العبثي، وعلم الأخلاق لتلبية حاجة الإنسان إلى الغرور والكبرياء، وبالمجمل فالعلوم والفنون تشكّلت نتيجة الكسل، فنمت وتغذت على الترف، حسناً روسو، فبعض آرائك منطقي، وبعضها الآخر طريف، فالأخلاق وهي سابقة الأديان ولدت بالفطرة مع الإنسان، والعلوم والفنون لم تخلق دوماً من رفاهية، على الإطلاق تماماً، ولكن روسو كان يسدد نقده الحاد إلى واقع الصالونات الباريسية تحديداً، والمشمول برعاية سيدات الطبقات المخملية المعنيات بالعشق والهوى تحت غطاء العلم والفن، بمشاركة رجال البلاط والمثقفين آنذاك، ولأن روسو كان أحد أولئك المشاركين، فكان وكأنه يثور على حياته العابثة، وهو عيب المثقف حين يصحو نهاره ويلعن ليله، فهل بذلك يتطهر؟! ومع هذا، فهناك وجهة نظر أخرى يتبناها بعض الباحثين في أن موقف روسو المتصلِّب هو «طبقي» بالأساس، فالصالونات الثقافية تقتات على الرواد الارستقراطيين، ولأن روسو يصنِّف نفسه من فئة الشعب البائس، فقد كره الأغنياء وعاداهم، حتى سأله أحد البارونات عن بروده الشخصي تجاهه، فكان جواب روسو: «لأنك غني جداً»، فالأثرياء في تقديره نوعية مصطنعة، تخنق أحاسيسها بالقوة وتتكلم تحت قناع المصلحة والغرور، وهو تحليل معقول، غير أنه لا يخص أصحاب الأموال وحدهم، بل يتعداه إلى فئات البشر، فمن الفقراء من يتشنج في كبح مشاعره ليخفي ضعفه، ولا يفصح عن حاله إلا بقدر منفعته، ومن الجلي أن الفيلسوف لم يكن محايداً موضوعياً، فأن تصوغ عملك نقمة على عصرك، فلن تنجو من التطرف وإن كنت بثقافة روسو. أمّا أن «المعرفة لا تولد الأخلاق، والمثقفون ليسوا بالضرورة صالحين»، فلا يخلو من الوجاهة أيضاً، فالسمة المميزة للنوع الإنساني لا تتمثل -كما منطق روسو- في تقدمه، بل في استعداده للترقِّي، سواء في ارتقاء الإنسان بذاته أو بالعالم، وفي رأيي أكان مثقفاً أو متواضع الثقافة، ما يعني أن في الارتقاء تقدماً، ولكن ليس شرطاً أن يكون التقدم ارتقاء، ونعم، يمكن تقدم المجتمع علمياً معرفياً، ولا يوازي تقدمه ارتقاء للمعدل النسبي الأخلاقي، بل وباعتقاد روسو، كل تقدم تحرزه الإنسانية ستدفع ضريبته في المقابل، وهي أفكار مألوفة في قاموسنا اليوم، لا في حينها، وعموماً، لو كان روسو وحيداً بردة فعله المتمردة، لما ظهرت الأفكار العامة لتغيير البشرية، ومنها ميثاق حقوق الإنسان، تقول الناقدة الفرنسية مدام دي ستال: «روسو لم يكتشف شيئاً، لكنه ألهب كل شيء»، وكذلك الكتابات الفلسفية حين تصبح ارتباطاً حياً بحركة المجتمع والفرد، فلا تكّتشِف ولكن تُلّهِب. [email protected]