كل شيء في الشاشات الصغيرة العربية يذهب بنا نحو مزيد من النوستالجيا. هكذا تقول لنا أفلام الأبيض والأسود، ومعها بالطبع أغنيات الأجيال القديمة من مطربي ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين ومن جاء بعدهم، مثلما تقوله لنا حلقات النقد والسّرد التي تتناول تلك الحقب الفنية ونتاجاتها ورموزها. هي حالة «اندلعت» كظاهرة من حاجة القنوات الفضائية إلى ملء ساعات بثّها الطويلة، والتي لا يسعفها الإنتاج الجديد بندرته الواضحة، ما جعل المشاهد يخضع بالضرورة لذلك السّيل من الأفلام التي سبق وشاهدها أكثر من مرّة، والتي تعيد الفضائيات بثّها، فتعيد تذكيره بمشاهدتها القديمة في دار عرض سينمائية، ومع ذكرى تلك المشاهدة تذكيره بحاله القديم وبعض ذكرياته الشخصية ووقائع حياته. هل هي عروض تأخذنا نحو الماضي؟ هذا ما تتسبب به العروض المتواصلة للأفلام والأغنيات السينمائية القديمة، خصوصاً أنها تعرض كلّ مرة صور المكان العربي، وما وقع له من تبدّلات ليست في الغالب نحو الأحسن. المشاهد للأفلام القديمة ستنعقد في ذهنه بالضرورة مقارنة مع مكانه الرّاهن تفضي كلّ مرّة إلى الحنين لتلك السنوات حين كانت الشوارع أقلّ ازدحاماً وأكثر نظافة وأناقة، الأمر الذي يفسّر دائماً تلك الحسرة على الأيام الماضية باعتبارها كانت تحمل لأهلها «هناءة العيش» وسهولته. لا يعني ما نقول دعوة للتنصّل من الماضي، ولكن فقط النظر إليه والتعامل معه باعتباره ماضياً، وليس كما يحدث مع راهن البثّ الفضائي العربي الذي يدفع المشاهد لأن يحلم باستعادة الماضي وليس تطوير المستقبل على ما بين الحالين من فوارق مأسوية. تستحق الحياة العربية نموذجاً أجمل للمستقبل غير استعادة ماضيها والحنين إليه بتلك الصورة المرضية التي تبثّها في النفوس «هناءة العيش» التي تحرّض عليها الأفلام القديمة بلونيها الحادّين، الأبيض والأسود، والتي تزداد ضراوة حضورها وتتجدّد مع موجة المسلسلات التي تستعيد سير شخصيّات فنية من ذلك الزّمان يجري كل مرّة غسلها وتقدّم للمشاهد نظيفة نموذجية بل شبه ملائكية، أي أنها تأتي خارج شرطها الإنساني والاجتماعي. ثمة ما نفترض أنه منطق توازن بين الرّاهن والماضي، وبينهما وبين المستقبل، توازن نعتقد أن «فلسفة» البث الفضائي العربي تقلبه رأساً على عقب.