الوقائع مغيطة ودالة معاً. تقدمت مجموعة من النواب السلفيين في البرلمان الكويتي بالتماس لأمير البلاد بإلغاء تدريس الفلسفة من المقررات التعليمية الكويتية، خشية على الاسلام، وعلى عقول النشء. وفي واقعة ثانية، يفكر المسؤولون في جامعة القاهرة في اغلاق قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بعد انصراف الطلاب عن الالتحاق به، وإثر فتوى دينية تُحرم دراسة النحت، فضلاً عن أنه لم يتقدم أحد للالتحاق به منذ أعوام عدة. الواقعة الثالثة مصرية أيضا، إذ أعلن عن انشاء أول مركز للدراسات الاسرائيلية في جامعة الزقازيق، يختص بدراسة المجتمع الاسرائيلي من الداخل. الذي يستوقفنا تصريح مديرته هدى درويش المتخصصة في الأديان المقارنة بأن «المركز متخصص في الرد على الغزو الثقافي الغربي، والاسرائيلي خصوصاً، عن طريق الدراسات والبحوث العلمية والكتب». ما الذي يربط الوقائع الثلاث السالفة الذكر؟ ربما تكون أزمة العقل العربي المستقيل من أداء دوره التحليلي، والتفكيكي والنقدي. رابط آخر، أن الوقائع الثلاث تؤشر الى زمن ثقافي غارب، وموغل في القدم. ففي الواقعة الكويتية بعد ألف عام من السجال الشهير بين الغزالي وابن رشد، عاد موقف الغزالي المعادي للفلسفة، ليرفع يده مجددا منتصرا على الموقف المنحاز للسؤال الفلسفي، والدرس الفلسفي عند ابن رشد، وبعد دخول العرب عصر الحداثة منذ قرنين بتوقيت تجربة محمد علي النهضوية، وبعد أكثر من نصف قرن بتوقيت دولة الاستقلال العربية لتغلق نافذة وراء نافذة، وبابا وراء باب حول المسألة الفلسفية، وضرورتها وحول العقل النقدي، وخطاب التفكير والتفكر، وكأننا لا نمتلك أكثر من مئتي جامعة وقرابة المليون من المدارس (في مصر وحدها 35 ألف مدرسة، و22 جامعة، وأكثر من مليون وربع معلم)، وها هم نواب الكويت يضبطون توقيتهم المحلي مع توقيت مزولة الغزالي. مئات الكتب الفلسفية المنشورة، وملايين النسخ من الكتب المدرسية المقررة، والعديد من الجمعيات الفلسفية العربية، وعشرات أقسام دراسة الفلسفة في الجامعات العربية لم تنجح في انتزاع شهادة حسن سير وسلوك لتخصص الفلسفة لدى نواب البرلمان الكويتي المشار إليهم. وبعد قرن بأكمله من فتوى الإمام محمد عبده المستنيرة حول اباحة النحت ودراسة الفنون والتصوير، ها هي المؤسسة الدينية تعود الى ما قبل توقيت القرن التاسع عشر، بل تعود الى توقيت العصور الوسطى لدى أكثر القوى والتيارات الدينية محافظة لتحرم دراسة الفنون الجميلة وصناعتها وتعاطيها خشية على العقول الاسلامية، وعلى المشاعر الدينية، وكأن المسلمين حديثو العهد بالاسلام، وكأن عروق الوثنية ما تزال تنبض فيهم، وستعيدهم فنون التصوير والنحت الى حظيرة الوثنية مجددا. وكنا نحسب أن خطاب الغزو الثقافي فات زمنه، ومنذ أن صك المفكر العربي الكبير محمد عابد الجابري مصطلح «الاختراق الثقافي» بعيدا من القيم الغربية المباطنة للتقنية، ووسائل الاتصال الجماهيري، وثورة الانفوميديا، وبخاصة بعد ان استقر الوضع لدولة الاستقلال العربية وتحولت بوصلة الغرب من توقيت الحداثة الى توقيت، بعد الحداثة، فإن البعض يروج للمصطلح المنكفئ المريض «الغزو الثقافي» والذي يقسم العالم الى فسطاطين: غازٍ ومغزوّ، قاهر ومقهور، وليس حسب فسطاطي القاعدة: دار الحرب ودار السلام، أو فسطاطي الأخ بوش: الخيرون والأشرار، ومن ليس معنا فهو ضدنا في ثنائية تبسيطية اختزالية تشويهية لوحدة الجنس البشري. يحيل مصطلح «الغزو الثقافي» الى ثنائية مانوية، والى نصفين مشطورين، يضاجع أحدهما الآخر، أو يتربص به، ويكيد له كأننا أمام وحش اسطوري بعشرات الألسن يحوطنا من كل جهة، ويلدغنا ذات اليمين وذات اليسار. هي القضية الرئيسية نفسها التي شغلت العرب في القرن العشرين وهي «الأصالة والمعاصرة», فإذ بالمعاصرة تتحول في شقها الخارجي الى مؤامرة ومكيدة وكمين وتربص، وحيث الذات السالبة المنكفئة العاجزة عن التفاعل والمشاركة والحوار، فتلوذ بالمتاريس والخنادق والمزاليج لتحمي نفسها من الغرب الشرير المتربص بنا. الوعي العربي المأزوم، والعقل المستقيل المنسحب يلجأ الى حيلة التبرير عبر تصوير العالم وكأنه تربص مستمر من الغرب ضدنا، ومناورة دؤوبة وشريرة لتكبيلنا بأذرع اخطبوط الغزو الثقافي.