مسكين هو الفنان السعودي، فهو خلال مسيرته الفنية يعيش على هامش الحياة العامة في وطنه، فلا احتفاء بقيمته الفنية ولا مكانة تهبها له المؤسسات الثقافية، التي يفترض أنها معنية به وبفنه وبكرامته، وهو أيضاً غير قادر على نشر فنه وإبداعه بين أهله وناسه الذين خرج من بينهم وتربى في حواريهم، فلا حفلات فنية يستطيع إحياءها، ولا مهرجانات ينثر من خلالها إبداعه، وإن استطاع فهي تقام نادراً وعلى استحياء، بل تحت ألف غطاء وغطاء. هذا الفنان الذي حمل سمعته بين يديه، ظل طوال العقود الماضية حبيس فكرة «لدينا فنانون وليس لدينا فن»، ولولا أن السعوديين يتنفسون الفن في الخارج، لمات فنهم ولما وجدوا من يستمع لهم، أو يحتفي بفنهم. وخلال نصف قرن لم يتعدَ عدد الفنانين السعوديين، الذين شقوا مصاعب التهميش والتشويه، العشرات، متناثرين بين «حظ ومصادفة» تبني مجداً لأحدهم وتدفن آخر في عوالم النسيان، فحتى جمعيات الثقافة والفنون، التي يفترض أنها معنية باحتضان أحلامهم وآمالهم، جُمد دورها حتى أقامت احتفالها السنوي الأخير بلا فن ولا موسيقى. إنها طبقة العمالقة التي لم «تنجب» غيرها، فبعد طارق عبدالحكيم وعبدالله محمد، مروراً بمحمد عبده وطلال مداح وفوزي محسون، وانتهاءً بابتسام لطفي وعتاب، لم يظهر خلفاء لهم في الطبقة الثانية سوى عبدالمجيد وراشد الماجد، ونحن الآن نكاد نرى آخر الفن وأهله. الفن مشروع حضاري للأمم، وليس اكسسواراً نلبسه أو نتباهى به وقت الصيف في ملاهي لندن وباريس، إذ نخب المال المتخمون بالحياة الصاخبة، بل هو قوت الشعب الذي يسلى به ويحمله أسراره وعيونه ودموعه وابتساماته، ولا يجوز أن ينظر له باعتباره نقيصة اجتماعية، أو وصمة عار تلاحق صاحبها وأسرته. انظروا للفنان العملاق وعميد الأغنية السعودية، ومؤلف نشيدها الوطني، «طارق عبدالحكيم»، كيف مات غريباً ودفن غريباً، كيف لم يلتفت إليه أحد طوال عقدين تقريباً من المرض والتعب والإنهاك النفسي والجسدي، وكيف سيصبح مجرد اسم مر كوميض في ناحية من نواحي الوطن ومضى، من دون أن نشعل من ذلك الوميض شعلة توقد تحضرنا وتقدمنا. ولنسأل أنفسنا ونحن نعرف الإجابة، لماذا لم ولن تسارع وزارة الإعلام لإطلاق اسمه على أي قاعة أو مسرح أو حتى غرفة تتبع لها في كل المملكة؟ ولماذا لم ولن نسمع أن بلدية الطائف، مسقط رأس فناننا العظيم، بادرت لإطلاق اسمه على شارع أو حديقة أو حتى «زقاق صغير» في إحدى حواري الطائف؟ إنها موسيقى طارق عبدالحكيم التي تطوف بعيوننا وقلوبنا وأسماعنا صبح مساء، تملؤنا وتحيي حب الوطن فينا، وأكاد أجزم أن كل ما سيجده فناننا الكبير الذي حمل في زوايا أنفاسه «طقطقات» نشيد وطنه، حتى خرجت في لحظة تجلٍ نادرة، أخباراً صغيرة في الصحف الورقية من باب رفع العتب فقط. هل تذكرون محمد عبده وما فعله في حرب الخليج الأولى، لقد كان جيشاً كاملاً يملأ الشباب حماسة ووطنية، هل تذكرون «هبت هبوب الجنة، وين أنت يا باغيها»، و«أوقد النار يا شبابها»، و«أجل نحن الحجاز ونحن نجد»... إلخ، كانت روحاً شجاعة ألهبت مشاعر الناس وملأتها إقداماً، وقربت بين أوصال الكيان الذي حاول أعداؤه اختراقه وثلم قلبه الرقيق. بقي محمد عبده ومضت أغانيه، وربما ننسى ذات يوم ما قدمه، فقط لنتذكر أنه لا يزال بيننا، وأننا نستطيع الآن أن نقف احتراماً له ولفنه العظيم، فهل نفعل؟! [email protected] @dad6176