لا أظن أن بلداً عربياً اليوم يشهد من الحراك الثقافي ما تشهده المملكة في الوقت الحاضر. مستوى ذلك الحراك مسألة قابلة للمناقشة، وسأقف على بعض مشكلاته الآنية بعد قليل، لكن ما لا يدع مجالاً للشك هو أننا نعيش حراكاً، أو حيوية ثقافية غير مسبوقة على المستوى المحلي، وقليلة الحدوث على المستوى العربي. فعلى مدى شهرين فقط عشنا سلسلة من التظاهرات الثقافية: مهرجان الجنادرية بمناشطه المتعددة، واستضافة المملكة في معرض الكتاب في المغرب، وصدور موسوعة المملكة عن مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، وافتتاح معرض الكتاب في الرياض، بما تضمنه من توزيع لجوائز الكتاب وتكريم لبعض أعلام الثقافة، إلى جانب توزيع جائزة الملك فيصل العالمية وصدور مجلدين من المختارات الأدبية السعودية المترجمة. الإصدارات السعودية في معرض الكتاب وبروز دور نشر محلية عنوان كبير لذلك الحراك والإصدارات، سواء جاءت عن دور نشر محلية أو عربية أو أجنبية (المختارات المترجمة) تسترعي الانتباه حجماً ونوعاً. لكنني أنوه بالإنتاج على مستوى الموسوعات والمختارات. فكما ذكرت، صدرت قبل أسابيع قليلة موسوعة المملكة العربية السعودية، وهي عمل كبير بمجلداتها العشرين ومحتواها العلمي والمعرفي والإبداعي الضخم وكذلك في مستوى إخراجها وضبط وشمولية محتوياتها. هذا العمل الكبير الذي اقتضى أعواماً من العمل الدؤوب والمتقن إلى حد كبير ينضم إلى نتاجات موسوعية مميزة تأتي من بينها الموسوعة العربية العالمية بطبعتيها ومجلداتها الثلاثين، لتأتي الاثنتان في طليعة الأعمال الموسوعية الصادرة عربياً على مدى يقارب العشرين عاماً. وتأتي أهمية العملين أن موسوعة المملكة تقدم قارة أو شبه قارة من الناحية الجغرافية، بما تزخر به من معلومات على كل مستويات المعرفة والإبداع، فالمملكة منذ تأسيسها قبل قرن وهي تضم أقاليم متنوعة جغرافياً وبشرياً وتضرب في عمق التاريخ والحضارة وتسعى في نموها المعاصر إلى مراتب عليا من الرقي، ولا شك في أن الإحاطة بكل ذلك أو ببعضه ليست من جهد المقل بل من جهد الطموح والعمل الجاد. أما الموسوعة العربية العالمية فيكفي أنها حتى الآن الموسوعة العربية الوحيدة بالمعنى الشمولي للكلمة ولم يقلل من أهمية طبعتها الأولى كونها مترجمة في الغالب، بل جاءت طبعتها الثانية لتزيد التأليف إلى الثلث وكان يمكن أن تمضي إلى أكثر من ذلك لو أن أحداً التفت إليها وتبناها في مؤسسات الثقافة في بلادنا بعد أن ولدت بدعم الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله. أعود إلى حراكنا الثقافي وأتوقف عند معرض الكتاب وما تضمنه من فعاليات في طليعتها توفر الكتاب على نحو لا يكاد يضاهى عربياً. فقد استقر رأي جميع الناشرين تقريباً على أن معرض الرياض بات في الطليعة عربياً ليس بمبيعاته فقط وإنما حتى في مساحة الحرية المتاحة. لكن سعادتنا بتلك الحرية، والحرية نسبية دائماً، وبالمعرض بوصفه تمثلاً لتلك الحرية النسبية، اعترتها بعض المنغصات «النسبية» أيضاً، وكان يمكن القبول بتلك النسبية بوصفها مطلباً واقعياً لولا أنها لم تكن مقنعة للكثيرين وأنا منهم. ذلك جزء مما أشرت إليه في بداية المقالة حين استثنيت «مستوى» الحراك الثقافي بوصفه مسألة خلافية. وأزيد الأمر توضيحاً فأقول إن ما حدث من سحب لبعض الكتب من المعرض يذكرنا بأنه ما زالت أمامنا مسافة نحتاج إلى اجتيازها لنحرر الكلمة المسؤولة. وأقول المسؤولة لأن ذلك هو المفهوم الذي يتكئ عليه الرد التقليدي على الاعتراض على الحجب. فالكلمة المسؤولة والحرية المسؤولة لا يختلف عليهما عاقل، بل هما ما نجد في كل مكان غرباً وشرقاً. «لا يوجد شيء اسمه حرية التعبير» بالمعنى المطلق، كما يقول الناقد والمفكر الأميركي ستانلي فش، لكثرة سوء الفهم الذي يعتري مفهوم الحرية حتى بات مفهوماً غير مفهوم. ذلك أنني مع فش لا أظن عاقلاً سيناقش في أن لكل حرية ضوابط لكن حجم الضوابط ونوعها هو مدار الاختلاف، فكم من الكبت مورس تحت ستار الضوابط ومنع الانفلات، بل إن تلك الضوابط نفسها التي بموجبها تم سحب بعض الكتب كان يمكن أن تكون ذريعة لسحب المئات غيرها، ولو حدث ذلك لتحول المعرض إلى صورة رديئة للحجب الثقافي كما كانت الحال قبل سنوات حين كان المثقفون الجادون يذهبون إلى القاهرة وبيروت بحثاً عن الكتاب الجيد. فما الذي كان يضعف معرض الرياض قديماً؟ إنه المغالاة في تفسير المسؤولية حين يتحدث أحد عن الحرية، حتى صارت المسؤولية الباب الكبير لإغلاق الحرية وليس لفتحها وإتاحة الفرصة أمام الاختلاف والحوار. أما ما حدث بعد ذلك فهو التوسع في تفسير الضوابط والتقليل من حجم الخوف عند الاقتراب من العناوين والمضامين. لا أظن أن الكتب التي سحبت تمس مقدسات الدين والعقيدة بقدر ما أنها تمس أناساً أو تطرح أفكاراً اكتسبوا واكتسبت مع الزمن صفة القداسة أو ما يقترب منها فباتت «تابوهات» بحد ذاتها. إن الرقابة جزء أساسي من أي مشهد ثقافي بل إنها ضرورية ومطلوبة، فمن غير الممكن السماح لأحد بالتعريض بالآخرين من دون وجه حق أو نشر ما يسيء إلى العقائد أو إشاعة ما يتنافى مع الأخلاق العامة، إلى غير ذلك مما ستراه الأكثرية رقابة مطلوبة ناهيك عن أن يعترضوا عليه. لكن المشكلة التي رافقت وستظل ترافق الرقابة هي في تحديد ماهية التعريض أو المساس أو الأخلاق، أي تحديد طبيعة التعدي على الممنوعات: ما هي الممنوعات؟ ومن يحددها؟ وكيف يجري التعامل معها؟ هذه قضايا كبرى في فلسفة القانون والأخلاق وليس هذا مكان الخوض في تفاصيلها أو اقتراح ما يساعد في معالجتها. لكن المجتمعات الأكثر نمواً أو نضجاً وضعت قوانين ومؤسسات حقوقية تساعد في حل هذه الإشكالات ولم تتركها للآراء الفردية غير القابلة للمحاسبة أو المساءلة. هناك قوانين وهناك محاكم وهناك إجراءات واضحة للتعامل مع حالات كالتي أشرت إليها. غير أن ذلك لم ولن يحسم القضايا الحسم العقلاني المريح، وستظل هناك مساحة رمادية من الاختلاف في الرأي والموقف والتأويل. وفي وضعنا الثقافي بشكل خاص ينبغي تطوير الفكر القانوني والإجراءات الحقوقية للحفاظ على الحقوق، حقوق الجهات المسؤولة وحقوق الأفراد والجهات التي تستثمر في قطاع ثقافي مثل التأليف والنشر. عندما يسحب كتاب من معرض أو من مكتبة فثمة حق معرض للضياع ومن الضروري أن نطور الآلية التي بموجبها يمكن التعامل مع ذلك الحق بما يرضي جميع الأطراف.