منذ سنين وهو يُقيم في العمارة نفسها. ستة أدوار وشقته في الدور الرابع. الأُسر فيها ثابتة إلى حد كبير، لكن تبدلت أجيالها. إلى جوار العمارة كنيسة، وأمامها جامع. في ساعات مختلفة من اليوم يأتي أذان الصلاة ورنين الأجراس. قرب الناصية متجر كبير من ثلاثة أدوار كان ملكاً للقطاع العام ثم اشتراه رجل أعمال عربي. تغير الشارع كثيراً منذ أن أقام فيه. صعدت عمارات جديدة واجهاتها من الزجاج الأزرق أو البني اللون. استقرت فيها بنوك ومحلات أجنبية الاسماء تبيع ملابس فاخرة للنساء «على الموضة»، وأخرى أسماؤها عربية تبيع الأثواب المُخصصة للمحجبات. فُتح في إحداها كوافير «طارق للنساء»، وعيادة للتجميل والتخسيس. في عمارة إلى جوارها مقر الشركة العالمية للاستيراد والتصدير، ومعرض لبيع السيارات، ومطعم صغير للأكلات اليابانية «سوشي». تغيرت فيه هو أيضاً أشياء كثيرة. لوّن شعره بعدما شاب. وجهه زادت فيه التجاعيد وظهرت فيه بقع صغيرة سوداء. عيناه تتداخل أمامها حروف الكلمات عندما يقرأ صحف الصباح. خطواته تترنح قليلاً فوق الرصيف، وأشياء أخرى مختفية تحت السطح يتنبه إليها أحياناً عندما يُفكر في الحياة. نعم، تغيرت فيه أشياء ما عدا شيئاً واحداً استمر فيه. التريض ساعة الفجر على شاطئ النيل القريب. عادة واظب عليها منذ اغتيال السادات كأنه قرر أن يُقاوم الموت المفاجئ. في وقت من الأوقات كان شاطئ النيل ملكاً للناس يتنزهون أو يجلسون عليه وفي أيديهم قرطاس من اللب، أو السوداني، أو الترمس، أو كوز ذرة عندما تقترب شهور الصيف. أما الآن فقد رقدت إلى جواره العوامات، والبواخر التي يتناول فيها أصحاب المدينة عشاءهم من الأكل الصيني، أو الهندي، أو الإيطالي، أو هجين من الأكلات جميعها. على الرصيف المقابل امتدت فنادق ومطاعم وكافتيريات يؤمها غالباً شبان ذوو لحى صغيرة مدببة، وسوالف طويلة، ورؤوس شعرها مدهون. يتريض على الشاطئ بعد أن تنتهي ساعات السهر فيُصبح هادئاً صامتاً، لا تُوجد فيه سوى منشآت خلت من الرواد، وصفوف من السيارات مركونة قرب الرصيف، وقِلة من الرجال والنساء يُمارسون رياضة العدو أو المشي، لا تعترضهم سوى مقاعد متفرقة تركها الحراس، أو أكياس القمامة السوداء التي أُعدت لتحملها سيارات النقل إلى ملقف للإحراق. أما هي فقد لفتت نظره أول مرة جالسة على الرصيف. قدماها المشققتان حافيتان في الصقيع، غطاهما التراب الداكن المُحلق في جو المدينة. ترتدي جلباباً تمزق عند الصدر فأوثقته بدبوس، ومنديلاً حول رأسها برزت من تحته خصل من الشعر في لون الصدأ القديم. كان بطنها منتفخاً، محمولاً على حجرها. إلى جوارها بنت بدت مثل النموذج المُصغر لأمها. على الجانب الآخر من جسمها كانت ممسكة بكيس أدرك أنها غالباً تضع فيه بقايا الطعام التي تستطيع أن تعثر عليها في هذا المكان. منذ اليوم الأول الذي لمحها فيه كانت تأتي وتجلس قرب صندوق من الصاج مدهون باللون الأخضر تُوضع فيه قمامة البواخر الكبيرة. صار يُلقي عليها بنظرة خاطفة وهو سائر في الطريق. وجهها أسمر نحيل برزت فيه عظام الخد والأنف. شفتاها الغليظتان فيهما إرهاصة من الشبق البعيد، لكن انجذب إلى عينيها. سوداوان واسعتان تملآن وجهها وتُطل منهما لمعة يعرف أنها حريق الجوع العميق. عينان جميلتان لكنّ فيهما شيئاً مخيفاً. لم يشعر بهذا إلا بعد مروره المتكرر عليها. عينان خاويتان ليس فيهما شيء، لا أمل، ولا يأس، ولا تساؤل، ولا ألم، ولا حزن. انفصال تام عن كل شيء، كالزجاج اللامع ينعكس هو فيه وكأنه هو أيضاً ليس حياً يتحرك أمامها. جالسة هكذا، واضعة يدها على بطنها، تأكد عندما مالت إلى الخلف أنه حمل، وأنها قريبة من اللحظة التي ستضع فيها وليدها. أحياناً عندما كان يمر في المكان الذي تجلس فيه يجدها واقفة عند صندوق القمامة تاركة بنتها على الرصيف لتُنقب في محتوياته، وتضع ما تعثر عليه في كيسها. إذا تأخر عن موعده المعتاد تكون غائبة فيستنتج أنها تتحاشى مرور الوقت حتى لا تُواجه بشرطي أو حارس ينقض عليها. تمكث دائماً لفترة محددة تبحث أثناءها عما قد ينفعها، ثم تنصرف. يتملكه شعور غريب عندما يُقابلها، كأن الدنيا الواسعة التي هبط باحثاً عنها تلاشت، ولم يبق سوى هذه المرأة، جالسة أو واقفة تُواجهه كأنه أصبح يربط بينهما هذا اللقاء اليومي الصامت، كأنه هو وهي نقيضان يصنعان شيئاً لا يُدركه، ولا يراه لكنه مصدر قلق في أعماقه. كأن تريضه ساعة الفجر ارتبط بوجودها، يفقد معناه إن لم يجدها، فصار حريصاً على الهبوط قبل ميعاده حتى لو اقتضى هذا أن ينتظر. يتساءل أحياناً لماذا لم يتحدث إليها ولو مرة، ليسمع منها، ثم بعد أن أمعن التفكير قرر أن بينهما عالماً لا سبيل إلى اجتيازه، ولغة غابت منذ البداية. استمرت الأحوال بينهما من دون تغيير يُمكن تسجيله. في الساعة المُحددة من بداية كل يوم يمر عليها. يجدها جالسة وإلى جوارها بنتها، واضعة يدها على كتفها المغطى بجزء مُرَقّع من الثوب فتظهر منه مساحة عارية شاحبة، أو وهي واقفة عند الصندوق الأخضر تميل عليه لتبحث في محتوياته بينما أحاطت بها القطط لتُشاركها البحث. إلى أن جاء هذا اليوم الذي كانت فيه غائبة. رأى القطط فقط متجمعة تقفز فوق الصندوق وتموء بأصوات صارخة فيها وحشة مفزعة. لا يعرف لماذا اقترب من الصندوق. أعلى القمامة كان يرقد جسد، طفل عارِ تماماً، صغير الحجم، منكمش في جلده، الذي صار لونه أزرق. الوجه نحيل جاف، والصدر لا تُوجد فيه حركة تنفس، لكن العينين واسعتان تُحملقان فيه بنظرتهما الزجاجية اللامعة.