حققت مجتمعات سعودية تقدماً هائلاً في تقليص أو إلغاء أنواع من العنف الأسري ضد الطفل، فالساكنون فوق سقف ال30 من أعمارهم يتذكرون أصناف تعذيب نفسي مرت بهم، كوقوف أحدهم، في زمن الطفولة، يحمل «طاسة» ماء على روؤس ضيوف يلتهمون صحناً من لحم داسم من دون أن يفسحوا مكاناً لصغير يعتصره جوع، مجبور على مشاهدة أسرع عملية تشريح لجثة ساخنة، وبقايا أرز مرت عليه أيادٍ مقاومة للحريق، أظافرها أطول من أناملها. ينتهي الضيوف من التهام الوليمة فيتحول الصغير إلى مغسلة يسكب الماء على آياديهم تباعاً، يستمع لمديحهم على حسن اختيار والده للذبيحة وجودة الطبيخة، هذا عذاب آخر يزيده مرارة اختلاسه النظر نحو الصحن المحاط بأقرانه المنهمكين بالتقاط البقايا، ففي زمن قديم لا يحق للصغار مشاركة الكبار في جولة الهجوم الأولى على الصحن الكبير، كان الآباء يصرون على اصطحاب الأبناء إلى وليمة لا ينالون منها إلا الصمت بقوة «أنطم»، الإتيان بنا كان فقط لاستعراض فحولة الآباء، وتوفير كلفة وجبة غداء في المنزل. ينتهي الصغير من دور المغسلة وسكب الماء على أيادي الضيوف، ممنياً نفسه ببقايا البقايا، لكن مسلسل الحرمان يستمر لأنه مضطر لتنفيذ أمر والده بسكب أقداح الشاي لرجال مشغولين باستخراج بقايا اللحم الطازج من أسنان فرقتها ضعف العناية، أو استخدامهم لأعواد تشبه المسامير حجماً وعنفاً، إضافة إلى خضوع الصغير قهراً لجلسة استماع متواصل لقصص بطولات قبيلة يتخللها مجاهرة الكبار بتلميحات جنسية يهرول بسببها الدم في شرايين خجل وجوه الصغار، ليست الوجوه وحدها المستضيف الوحيد للدم. مارس الآباء حروباً نفسية ضد الأبناء مستغلين التلفاز كأداة حرمان، فمشاهدة أفلام كرتون للرجل الحديدي، الليث الأبيض، قرانديزر، والكابتن ماجد لاحقاً، تتاح فقط لمن تشاركوا في «حش» البرسيم ورميه عند أقدام ماشية كانت تتمتع بأكياس شعير يزيد سعرها على 50 ريالاً على حساب توفير علب حليب «نيدو»، كانت قيمتها أقل من 20، وعندما ينتهي «ماجد الشبل» من نشرة الأخبار ينهض الأب مغادراً «المجلس» وضاغطاً على زر إطفاء التلفاز، وعلى كل صغير أن «ينطم» قبل أن يفكر في متابعة مسلسل كان على وشك البدء. كانت تعيش الأسرة السعودية سهرتها السينمائية مرة واحدة في الأسبوع، يعود الفضل في ذلك لروعة أداء عبدالرحمن الراشد أثناء تعليقه على حلقات المصارعة كل ليلة ثلثاء، ليلتها تعم الحماسة منازلنا، لدرجة تخلي الكهول عن وقار يكشفه صراخهم وزحفهم حتى تلتصق وجوههم بالشاشات، بينما تعم الفوضى مدارسنا في اليوم التالي، لأن جرعة العنف لا تتسرب إلا بالعنف. كانت حظوظنا مع مشاهدة مباريات الدوري السعودي عالية عندما كانت تقام تحت الشمس، ذهبت حظوظنا مع حضور إضاءات الملاعب، كضياع نصيبنا من ممارستها بسبب سكاكين صغيرة يستلها الكبار من تحت ثيابهم ويغرسونها في نحورنا حسرة، قبل تمزيق «كووورة» تشاركنا في لملمة قيمتها، الحل دوماً تجميع بقايا ملابسنا وحشرها في جورب، و«أهب يا ذا الشايب» كلما أقبل. يفرط آباء حاليون في تدليل صغارهم، لا غرابة، فأثر قديم الإصابة منقوش على قلوب هجرت مواطن الصبا هرباً من استجرار ذكريات آباء كانت لهم النخيل والماشية والضيوف أهم بكثير من حامل الطاسة. [email protected] jeddah9000@