«إن ليس في إمكاننا ان نضفي صفة العلم على اي معرفة لا تكون ذات فائدة في حياة البشر ولا تقود الى سعادتهم»، بهذه العبارة الواضحة، بدأ الفيلسوف الألماني كريستيان توماسيوس، عند بدايات القرن الثامن عشر، سلسلة من التحديدات المهمة واللافتة -والتي كانت جديدة في ذلك الحين- لمهمة المعرفة ودورها في حياة الكون. ولئن هو اعتبر المبدأ الذي افتتحنا به الحديث، مبدأ اساسياً في هذا المجال، فإنه سرعان ما اتبعه بخمسة مبادئ اخرى، جاءت على النحو الآتي: - إن معرفة الكثير من اللغات، هي اضعف الايمان بالنسبة الى مسألة المعرفة ، - إذا اراد المرء ان ينصرف الى المعرفة فإنه ليس في حاجة الى ان تكون لديه مهنة خاصة، - إن الاشخاص من الجنس الانثوي لسن اقل مقدرة على الوصول الى المعرفة من اشخاص الجنس الذكوري، - ومع هذا فإن معرفة امور كثيرة ليس من شأنها ان تجعل من الانسان انساناً عارفاً، - لا يكون عارفاً إلا ذلك الشخص الذي يمكنه حقاً ان يبرهن على معرفته بالافعال والوقائع، - لا يكون عارفاً ذاك الذي يمزج بين النور الطبيعي والنور المافوق طبيعي... لقد افتتح كريستيان توماسيوس بمثل هذه المبادئ ما سمي لاحقاً بعصر الانوار الالماني. صحيح ان هذا العصر انطلق في تسميته هذه من مثيله الفرنسي، لكنه كان يمتاز عن هذا الاخير، لا سيما لدى مفكرين من امثال توماسيوس، بالسعي وراء سعادة الفرد ووضع الفرد في مواجهة الجماعة قوياً، عبر تزويده ليس فقط بالمعرفة والنور، بل كذلك بالمقدرة على النقد (كانط). وبالنسبة الى توماسيوس، الذي كان -على اي حال- اكاديمياً وصحافياً اكثر من كونه عالماً منصرفاً الى وضع الكتب، كان المطلوب دائماً هو الايمان بالنور الطبيعي والتأكيد على ان «القانون والاخلاق ليسا منوطين باللاهوت وحده». والحال ان توماسيوس قبل العودة الى هذا المبدأ من كتاب «القانون الطبيعي» الذي كان من آخر كتبه، لم يفته ان يمر في مرحلة صوفية اشراقية تجلت لديه في كتابين اساسيين له، هما «الاخلاق العملية» (1664) (الذي شهد انقلاباً في فكره جعله يعتنق النزعة «التقوية» ويفقد ايمانه بقوة العقل البشري)، و «محاولة في ماهية الروح» الذي أتت اشراقيته الصوفية متناقضة مع كل افكار شبابه. غير ان تلك المرحلة من فكره كانت قصيرة ولم تدم سوى سنوات قليلة عاد بعدها في «القانون الطبيعي» (1705) ليركز على الاسس التي صاغ عليها فلسفته التنويرية، القائمة على مبادئ اساسية مثل التسامح الديني، والصراع ضد السلطة والاحكام المسبقة، وإلغاء التعذيب ومطاردة الساحرات. في كتابه الأساس اذاً، «القانون الطبيعي»، عبّر توماسيوس عن تعدد نشاطاته، اذ إن الكتاب تأرجح بين الفلسفة واللاهوت في شكل انتقائي، عبر التأكيد على ان «ما من مدرسة تستطيع ان تدّعي لنفسها احتكار الحقيقة»، بالنظر الى ان «كل عالم لا يرى الحقيقة إلا من وجهة نظره». وفي هذا الكتاب ايضاً، أعاد توماسيوس التأكيد على نزعته الرواقية الابيقورية القائمة على فكرة ان «الحب هو محرك الافعال» و «العقل يقود الإرادة بمعونة النور الطبيعي» و «الإرادة لا تميل الى الرذيلة الا متى وهنت». بالنسبة الى توماسيوس، لا يمكن للممارسة السياسية الا ان تتجه نحو تحقيق سعادة المواطن. وبهذا كان هذا المفكر، في «القانون الطبيعي» كما في كتبه الاولى، مثل «في الاخلاق» (1692) و «في المنطق» (1691)، المفكر الذي ادخل القانون الطبيعي كسلطة نقدية في السجال الذي كان دائراً داخل حلقات التنوير الالماني. وفي هذا الاطار كان توماسيوس يربط كل معرفة وكل تربية كانت عناصرها متوافرة في زمنه، بالهدف الاسمى لفلسفته كلها: سعادة المواطن، باعتبار ان «سعادة الانسان هي هدف كل حكم، وغاية كل عقد اجتماعي وكل سلطة». ومن هنا نراه يطالب الدولة بضمان حقوق المواطن. وفي مقابل هذا، يطلب توماسيوس من المواطن ان يقوم بواجباته تجاه الدولة. وهنا كان المفكر يرى ان «المواطن الذي يقوم بكل ما يتوجب عليه من اجل الصالح العام، هو وحده الذي يضمن ما فيه مصلحته الخاصة». وفي هذا المعنى عبر توماسيوس عن ذلك التلازم الذي كان يراه بين تعاليم الدولة وقوانينها وأفعالها، وبين المواطن من اجل الوصول الى السعادة العامة. ومن هنا، فإن «المواطن الفرد يكون سعيداً فقط بفعل قوة الدولة وعبرها»، وبالتالي فإن «ليس في امكانه ان يحصل على سلطة شخصية فردية، ولا يتعين عليه اذاً، ان ينعتق من سلطة الدولة». وفي هذا الاطار يمكن القول ان توماسيوس -وبالتناقض مع مواطنه ليبنتس- لم يكن معنياً في الدرجة الاولى، بصواب رأي ما او خطئه، بل ب «معيار الاختيار الصحيح» حيث إن تفسيره للقانون الطبيعي، الذي يمكن وصفه بأنه فلسفة عملية، كان هو الذي يحدد متطلبات الفلسفة النظرية. في اختصار، كان توماسيوس يرى انه معنيّ من باب اولى، بالتركيز على تلك الفلسفة العملية بصفتها المعيار الاساس لكل علم، مؤكداً على ضرورة ان تدخل العلوم والفلسفة العملية والاخلاق وعلوم السياسية في القانون الدستوري، وذلك عبر التدريس الجامعي الذي انصرف اليه توماسيوس طوال حياته، حيث انه في الواقع العملي، لم تكن له اي حياة فكرية حقيقية خارج الجامعة. لكن توماسيوس حقق الكثير داخل الجامعة، بل إنه - انطلاقاً من هناك - خاض اللعبة الفكرية السياسية من بابها الواسع، حيث إنه في صراع مع السكولاستيكية الجامعية الجامدة التي كانت سائدة في لايبزغ، رقّاه ناخب براندنبورغ الاكبر داخل جامعة هالي، حيث ساهم منذ العام 1690 في تأسيس تلك الجامعة على اسس عقلانية. وهو في تلك الجامعة ظل حتى وفاته في العام 1728، يدرس نظرية الحق، مبتدعاً وللمرة الاولى في تاريخ التعليم الجامعي الألماني، مبدأ التدريس بالألمانية المحلية بدلاً من التدريس باللاتينية، كما كان الامر قبله. وفي هالي، دخل في صراع مع الفيلسوف التنويري الآخر فولف، الذي كان ترك لايبزغ إثر غزو القوات السويدية للمدينة. وفولف تمكن يومها، بفضل رسالة توصية من ليبنتس، من الحصول على مقعد تدريسي في جامعة هالي. وهكذا انطلق الصراع بين انصار توماسيوس وأنصار فولف، وكان صراعاً له خلفيات سياسية واضحة، حيث تجابه التوماسيوسيون وأنصار مبدأ التقوى في جبهة واحدة، مع البروتستانتية القويمة التي كان يمثلها فولف. والحقيقة ان هذا الصراع إنما كان يخفي صراعاً آخر فحواه البحث عن هوية للفلسفة الألمانية في ذلك الحين. ولئن كان فولف قد طرد في العام 1721 فما هذا إلا بسبب استعانته بأفكار كونفوشيوس الصينية لاستكمال فلسفته في وجه فلسفة توماسيوس الالمانية الخالصة. في هذا كله، كما في بناء الفكر العقلاني الألماني وفي استخدام الألمانية كلغة جامعية وفلسفية، كما في نهضة الصحافة في تلك الأزمان المبكرة، لعب كريستيان توماسيوس (1655-1728) دوراً كبيراً، فهو ابن الفيلسوف اللوثري الالماني يعقوب توماسيوس الذي كان استاذاً لليبنتس في لايبزغ، وكان اول المفكرين الذين احتجوا على فصل اللاهوت الطبيعي عن الميتافيزيقا. أما الابن كريستيان الذي لم يبتعد عن مهنة أبيه وإن كان ابتعد عن افكاره، فسيذكر له دائماً أنه كان اول من أسس التقاليد الجامعية العلمية المستندة الى اللغة القومية (الألمانية) ما عمّم افكار التنوير، وجعل من جامعة هالي في عصره اولى جامعات العصور الحديثة، في انفصال عما كان عليه التعليم الجامعي في العصور الوسطى، وبهذا اصبحت جامعة هالي المركز الاساس لتطور الفكر البروتستانتي الالماني طوال القرن الثامن عشر. [email protected]