يقترب عمل دان فونغ دنيس الوثائقي»الى الجحيم ذهاباً وإياباً» كثيراً من فيلمي «أراماديلو» للدنماركي جانوس ميتس، و «ريستريبو» للمخرج الإنكليزي تيم هيذرينغتون، الذي قتل العام الماضي في ليبيا أثناء تصويره الأحداث في مدينة مصراتة. يقترب منهما كونه تناول مثلهما حرب أفغانستان وسجل وقائعها عبر معايشة طويلة للجنود المَرميين في جحيمها، ويرصد -أبعد من جغرافيتها وتفاصيلها- الآثار النفسية المدمرة التي تتركها فيهم حتى بعد عودتهم الى أوطانهم. الذهاب إلى الجحيم الأفغاني يُوزعُ دان فونغ دنيس وثائقيّه بين الولاياتالمتحدةوأفغانستان وفق تناسق فَرَضته تجربة العريف هربرت هاريس بين مكانين مختلفين: الأول وُلِد وعاشَ فيه والثاني خَدم فيه عدة شهور كأحد المنتسبين الى الوحدة الثانية التابعة للواء الثامن لقوات المارينز. أعطت اللقطات الأولى لحركة طائرات الهليكوبتر المكثفة في أجواء أفغانستان، والمأخوذة من علو، مشهدية بصرية رائعة امتدت الى اللقطات التي تصور جنود الوحدة وهم يهبطون منها في العمق الجنوبي لبلاد الأفغان، تنفيذاً لمهمة وصفها القادة العسكريون بالحاسمة، أراد من خلالها الجيش الأميركي في صيف عام 2009 اختبار تكتيك جديد يحارب به مقاتلي طالبان في أكثر تحصيناتهم متانة. أراد المزج بين القوة العسكرية وكسب ودّ أبناء القرى القريبة. كان العريف هاريس من بين أكثر الجنود حماسة وثقة بالعملية وإيماناً بالمشروع الأميركي في أفغانستان. كان كليّ الاقتناع بحسن نوايا إدارة بلاده السياسية في تخليص شعب أفغانستان من ظلم طالبان و «القاعدة» وتخلفهما، وفتح الطريق أمامهم لعيش حياة جيدة يستحقونها. ومن سمع خطبته في جنوده قبل تموضعهم خلف السواتر الترابية لمواجهة العدو في أول معركة لهم، يدرك مدى إخلاصه: «نَصرُنا معتمِد على علاقتنا بالناس. علينا مَدّ جسور من الثقة المتبادلة، ولا تنسوا نحن خبراء في القوة، لهذا لا تتوانوا عن استخدامها للوصول الى الهدف». في أول معركة سيسقط شهداء وجرحى من وحدته، وصورة الجندي شارب ستظل عالقة في ذهنه. لقد صوره دنيس بوضوح وهو يفارق الحياة، ليعكس آثار موته على وجوه زملائه، وإدراكهم حقيقة أنهم في معركة صعبة وليس في احتفال لعرض القوة. سيدرك هاريس أنه يحارب خصماً لا يُظهر وجهه، لكن رصاصته تصل الى هدفها. اللافت أن المخرج ووسط كل الفوضى العارمة والحركة المضطربة، لم يتخلَّ عن التزامه بالضوابط الهوليوودية. الجحيم الأميركي ... إياباً رافق المخرج دنيس العريف هاريس وزوجته طويلاً، حتى صار جزءاً من حياتهما لكثرة ما كان قريباً منهما، ولقضائه ساعات طويلة في تصويرهما داخل بيتهما وخارجه، وتوافرت عنده حصيلة كافية ليكتب عبرها يوميات رحلة العودة الى الجحيم الأميركي سينمائياً. يقيناً لن يدرك أحد منا عذابات رَجُل كرس نفسه للحرب وآمن بها، وفجأة وجد نفسه عاجزاً عن الحركة معتمداً بالكامل على مساعدة زوجته وعلى أدوية أدمن تناولها. لن ندرك عمق هذا، نحن الذين لم نجرب عذاب الجحيم هذا إلا بفضل عمل سينمائي مهم، صَوَّر لنا حالة الجندي الجريح، العاطل، وهو يعيش يومه حزيناً فاقداً لمعناه، فهاريس كان محباً للقتال وعاشقاً له، وحين فَقَدَه فَقَدَ معنى وجوده ككائن، ولأجل هذا تراه طيلة الوقت ممسكاً مسدسه، مصوباً إياه نحو زوجته التي ضحت بالكثير من أجله، أو نحو جمجمته. إنه مدمن عنف، كان يجد فيه منذ طفولته رجولتَه المكتملة، وعكسه كان إحساسه بالضعف يدفعه بقوة نحو الجنون. لقد لجأ دنيس الى الربط بين آلام هاريس وذاكرته القريبة، فكان كلما تألم يعود بنا الى أفغانستان، لنكمل معه تفاصيل تجربته هناك، مستقيداً من عمق الهوة بين المكانين وقوة حضورهما في دواخل الجندي المعوّق المنسحب الى داخله والعاجز عن فهم عجزه، فاليقين يلغي في الغالب القدرة المتفحصة للداخل، ويلغي إمكانية منح الآخر الحق مهما صغر، لهذا تراه يبادر بشرح واقع ودوافع الحرب الى زوجته، وأحياناً في مواساة مدمية للذات، الى أناس لا يعرفهم يلتقيهم مصادفة في الشارع، ومع كل تعاطفهم الشكلي معه كان يشعر في أعماقه بسعة الهوة التي تفصله بين ما كان ينتظره من اعتراف صاخب بتضحياته في سبيل وطنهم المشترك، وبين عطف بارد شكلي وسريع. في برود التعاطي مع تضحياته، يشترك العريف الأميركي مع ملايين الجنود على مدى التاريخ، الذين عادوا بعد صراع طويل وكانت آمالهم في ملاقاة يستحقونها تتبدى في فتور مريع، حين يجدون الناس لاهين عنهم في تفاصيل حياتهم اليومية، حتى الجنود الذين شاركوهم المعارك وعادوا سالمين تراهم مندمجين في حياة عادية سوية لا تهتم كثيراً بالرفقة القديمة، فهم مثل غيرهم من الجنود يريدون نسيانها ولا يرغبون في ملاقاة من يعيد اليهم ذكرياتها الأليمة ثانية. مشاعر الخيبة سيعيشها الجندي العائد بأوهام المجد كلما خرج لمداواة جروحه في مستشفيات الجنود، وسيشعر بقوة ضغطها النفسي عليه أكثر فأكثر. وعلى مستوى موازٍ، وتقديراً لأهمية رصد تفاعلات عالم «بطله» الداخلي مع الخارج الأميركي، أُعطي بطل «الى الحجيم ذهاباً واياباً» كامل الحرية في الحركة والتعبير عن أحاسيسه، وحتى عن هلوساته ومخاصمته لذاته، وكان الألم في محصلتها الأكثرَ حضوراً بين كل ما قال وعبَّر.