ينتاب المتابع شعور بأن سورية مرشحة للمزيد من الأهوال. لم يعد النظام قادراً على التراجع بعد الذي لحق بصورته وحزبه وجيشه وأمنه واقتصاده. ولم تعد المعارضة قادرة على التراجع بعد سقوط آلاف الضحايا والأضرار التي لحقت بمدن وقرى. كل من الفريقين يعتبر التراجع انتحاراً. المعارضة قادرة على تقديم المزيد من التضحيات، والنظام قادر على ممارسة درجات أعلى من القسوة. وربما تنكسر سورية نفسها قبل أن يسلّم أحد الفريقين بانكساره، وانكسار سورية يعني غرقها في حرب أهلية طويلة ستكون بالضرورة نوعاً من الحرب الأهلية الإقليمية. واضح أن التغيير في سورية سيكون، في حال حصوله، أكثر أهمية من اقتلاع نظام صدام حسين في بغداد. إنه تغيير كبير على مستوى الإقليم. فهو تغيير في حدود الدور الإيراني، والدور الروسي، وميزان القوى داخل العالم العربي. وسيؤثر في النزاع العربي – الإسرائيلي، والتنازع السنّي – الشيعي، وعلى حرية الحركة لتركيا والأردن ولبنان. وسيترك آثاره على الوضع العراقي الهش، وربما لهذا السبب تحول النزاع في سورية إلى مشروع مواجهة كبرى. ثمة من يعتقد أن الوضع الحالي في سورية هو نتيجة سلسلة من الأخطاء أو الفرص الضائعة، يمكن اختصارها بالآتي: - كان «ربيع دمشق» في بدايات العقد الماضي رسالة تطالب الرئيس بشار الأسد بكبح تسلط الحزب وأجهزة الأمن على حياة الناس. وكان الرئيس يملك رصيداً شعبياً يؤهله لفتح النوافذ. لكن الشبكة الأمنية – الحزبية سارعت إلى التلويح بخطر عودة الإسلاميين وأضاعت فرصة لم تكن القوى المعترضة تطالب خلالها بأكثر من خطوات إصلاح وتطوير تحت سقف الاستقرار والنظام. - عشية الغزو الأميركي العراق، اتفقت دمشقوطهران على العمل لإفشال الغزو بكل الوسائل. فتحت سورية حدودها ل «المجاهدين» الراغبين في العبور إلى العراق لمقاتلة الأميركيين، وها هي تعاني اليوم ارتدادات ذلك الدور. - لم تتوقف السلطة السورية طويلاً عند التراجع الذي طرأ على العلاقات السنّية – الشيعية، بفعل اغتيال الرئيس رفيق الحريري وإعدام صدام حسين، وطريقة الإعدام وتوقيته. - بعد اغتيال الحريري وخروج القوات السورية من لبنان وبعد حرب تموز (يوليو) 2006، بدا أن العلاقة الإيرانية – السورية شهدت اختلالاً في داخلها لمصلحة طهران، ما أعطى الانطباع بأن سورية باتت أسيرة الخيار الإيراني. تعزز هذا الانطباع لاحقاً مع عودة نوري المالكي إلى مكتبه، وإقصاء سعد الحريري من مكتبه في رئاسة الوزراء. - وقعت السلطة السورية لبعض الوقت في اعتقاد أن المثلث السوري – القطري – التركي يمكن أن يشكل بديلاً من المثلث السوري – السعودي – المصري الذي حرص الرئيس حافظ الأسد على عدم التفريط به، على رغم الاختلافات والخلافات. - تعاطت السلطات السورية مع عملية إعادة تأهيلها عربياً ودولياً، بجهود سعودية وقطرية وتركية وفرنسية، وكأنها مجرد عملية تسليم بدورها وخياراتها، ورفضت الالتفات إلى أن عملية التأهيل تطالبها عملياً بالعودة على الأقل إلى سياسة عدم التطابق مع السياسات الإيرانية في الإقليم. - أنفقت السلطات السورية معظم جهدها على معارك الخارج، واعتبرت خيار الممانعة حصانة ضد أي اضطراب. لم تتنبه إلى أن ثمار الانفتاح الاقتصادي لم تتجاوز بعض دمشق وحلب إلى الأرياف التي ازدادت فقراً، وازداد انحسار دور الحزب في المناطق التي كانت تشكل قاعدته الشعبية. ولم تتنبه أيضاً الى جيل جديد وفرت له ثورة المعلومات قدرات على التواصل والانتقاد، والمطالبة بالمشاركة أو التغيير. كان باستطاعة السلطة اغتنام أحداث درعا لإعلان إسقاط المادة الثامنة من الدستور، وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة شخصية موثوقة من خارج الحزب، لكن الفرصة ضاعت. العجز عن التراجع ينذر بالمزيد من الأهوال. وثمة من يخشى أن تنكسر سورية نفسها قبل انكسار أحد طرفي النزاع. فحلم الانتصار بالضربة القاضية قد يكون خطوة واسعة على طريق الدمار والانتحار.