متأخرًا ظهر فيلم «وجدة» على شاشات عرض القاهرة. وهو ظهر فى شكل محدود، في دار عرض «زاوية» في وسط المدينة. و «وجدة» هو الفيلم الذي أنتج العام 2012 ونال ثلاثة جوائز من مهرجانات عالمية، هي جائزة سينما فناير وجائزة الاتحاد الدولي لفن السينما وجائزة انترفيلم، كما أنه في الدورة التاسعة لمهرجان دبي السينمائي أمن لمخرجته السعودية هيفاء المنصور جائزة المهر الذهبي لأفضل فيلم روائي عربي قبل ان يصل للترشح لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم بلغة أجنبية العام 2013، ومن المعروف ان عروض الفيلم جابت العالم قبل ان يظهر أخيرًا فى القاهرة. المرأة على المحك قبل «وجدة» السعودي، ذاع صيت السينما الإيرانية وحصدت الجوائز عن الأفلام التي تقدمها للعالم. ورغم كل المحاذير الموجودة في وجه صناعة السينما فى إيران، فإن صُناع هذه السينما استطاعوا تمرير أحلامهم وطموحاتهم الفنية عبر حكايات يتنازع بطولاتها الأطفال هاربين من غالبية المحاذير. وهكذا كلما زادت الرقابة ابتكر الفنان طرقًا متنوعة للتعبير عن فنه ورؤيته. ومن المؤكد ان هيفاء المنصور، استفادت من دروس التجربة الإيرانية حين تقدمت بسيناريو فيلم «وجدة» لمهرجان دبي، وفازت بجائزة الشاشة لعام 2009 عن نص السيناريو، ثم عكفت لسنوات على الانتهاء منه، لتجد بعد ذلك شركات إنتاج أجنبية متحمسة للإنتاج وليكون فيلمها الروائي الطويل هذا بذلك فيلم سعودي روائي طويل وإنتاج مشترك. في «وجدة» تقدم هيفاء المنصور قراءة واعية، وشفافة من دون إزعاج أو تقعر فى الحبكة الدرامية، وهي تلامس حال المرأة السعودية، وما قد تتعرض له من عادات اجتماعية قد تؤثر في وجودها، ومشاركتها المجتمعية، فتتميّز المعالجة برهافة مدهشة وبما يتناسب مع قصة عن الطفلة وجدة. تبدو قصة الفيلم بسيطة للغاية وتتلخص فى تلك الفتاة التي تحلم بشراء دراجة، وتسعى إلى هذا الحلم، فتدّخر من مصروفها، وتصنع بعض الأغراض لبيعها لزميلاتها فى المدرسة، لتشارك بعد ذلك في مسابقة للقرآن الكريم جائزتها 800 ريال، أي ما يقارب ثمن الدراجة. وتذهب لشراء المصحف الإلكتروني بما تدخره، وتتعلم وتحفظ. ونلاحظ هنا كيف أن المنصور عمدت إلى توضيح أن هذا الجيل الجديد يملك أدواته لتحقيق أحلامه، وقادر عليها. فوجدة لكي تدخر المال الذي تحتاجه، كانت تصنع أغراضاً وتبيعها للزميلات، ثم عندما قررت الاشتراك في المسابقة، تشتري المصحف الإلكتروني الذي بواسطته تكتسب خبراتها فى التعلم، ولعل هنا إشارة أخرى إلى أن الجيل المقبل بوعيه بحلمه، ورغبته الأكيدة، إضافة إلى التكنولوجيات، يمكنه تحقيق أحلامه، وبالفعل تصل وجدة في المسابقة القرآنية إلى النهائيات وتفوز بالجائزة، لكن المجتمع برقابته وعاداته والذي تمثله (حصة) مديرة المدرسة يقرر معاندة الفتاة إذ تعلن المديرة التبرع بجائزة وجدة للفلسطينيين. والحال إن هذا كله يجعل الفيلم حالة إنسانية مميزة للغاية. فوجدة ليست بمعزل عن المجتمع، حيث والدتها تتعرض لضغوط لها علاقة برغبة والدة الزوج فى تزويجه من أخرى لإنجاب صبي، وتحاول طيلة الأحداث أن تجعله يتخلي عن هذه الرغبة عبر أدوات المرأة التقليدية (التزين والرقة). الأطفال هم الحل وعلى جانب آخر، تعاني والدة وجدة من مشاكل مع سائقها الباكستاني، بينما تعرض عليها زميلتها ليلى أن تعمل فى مستشفى، لكن والدة وجدة ترفض لأن العمل يتطلب كشف الوجه. ورغم ان الوالدة ترتدي أحدث الموديلات فى المنزل، وتصفف شعرها بأناقة داخله، إلا انها تنصاع للمجتمع الذي يفرض أن تغطي المرأة وجهها، وهو نفس الأمر الذي تحدثت فيه الأستاذة حصة مع وجدة طالبة منها ان تغطي وجهها. وفى ظل حكاية الطفلة، لا بأس من أن نذكر إن صديقها المقرب عبد الله، الطفل الجار الذي يقاربها فى العمر، يتفق معها في أحلامها، يعلمها كيف تقود الدراجة، ويذهب معها إلى سائق والدتها، ليتعامل معه بقسوة حتى يتراجع في معاملته مع والدة وجدة. إذا فالحلول هنا تحدث عبر الأطفال الذين يمثلون الأمل والمستقبل في أي مجتمع. وفي مشهد ناعم جدًا وفارق فى البناء الدرامي، تتصاعد الأحداث فيتزوج الأب من أخرى، وتقف والدة وجدة على السطح تدخن وتبكي، وتصعد لها وجدة وهي تبكي أيضًا حيث مديرة المدرسة أجبرتها على التخلي عن الجائزة والتبرع بها. كل من المرأتين تبكيان لضياع حلمها، لاحظ هنا ان حلم جيل الوسط من النساء هو الاحتفاظ بالزوج، بينما حلم الصغيرة، هو الحصول على دراجة هوائية، الحلم الأول فيه تبعية واحتفاء بالآخر واعتماد عليه، والحلم الثاني فيه استقلالية، ورغبة فى الانطلاق. على أية حال، تنحاز الأم الى حلم ابنتها، وتشتري لها الدراجة، ليأتي المشهد التالي ووجدة تقود الدراجة فى شوارع الرياض، وسط نظرات إعجاب المارة حيث يسابقها عبد الله، لكنها تفوز، وتقف فى مفترق طرق والهواء يرسم ابتسامة على وجهها، ويطيّر أجزاء من شعرها في رمزية مهمة ودالة على تحرر جيل مقبل من ثقل العادات والتقاليد. ولقد جاءت الصورة فى الفيلم هادئة خالية من أي رمزية، أو دلالات باستثناء مشاهد النهاية، التي استوجبت الرمزية لتأكيد قيم مكتسبة عبر هذا الجيل الذي يحمل الأمل. لقد تألقت هيفاء المنصور فى «وجدة» على كل المستويات بدءاً من الكتابة التي عولجت بعمق وبساطة، وصولاً إلى الموسيقى الهادئة والملائمة، وكذلك المونتاج الذي أتى ناعمًا دون إزعاج أو قطع واضح. والحقيقة أن عرض فيلم «وجدة» في القاهرة على تواضعه النسبي ونجاحه المعنوي الأكيد، خطوة مهمة في تاريخ السينما السعودية، وتاريخ مشاركة المرأة فى صناعة السينما، هذا النجاح الذي سيغير شكل صناعة السينما في المجتمع السعودي في الفترة المقبلة، كما أن نجاح المنصور سيدفع نساء أخريات لخوض التجربة، مشبعات بأمل الوصول إلى ما حققته المنصور. وفي هذا السياق لا بد من التأكيد على أن الفيلم تم تصويره بالكامل داخل المملكة العربية السعودية، وهذا أيضًا يفتح أفاقاً جديدة فى صناعة السينما، ولصنّاع السينما.