أكدت تونس تمسكها بالعلاقات الاستراتيجية التي تربطها مع الاتحاد الأوروبي على رغم تغير النظام وتولي الإسلاميين قيادة الائتلاف الحاكم. وقابلها الاتحاد من خلال استضافة رؤساء مؤسسات الاتحاد الثلاثة، رئيس البرلمان مارتن شولتز ورئيس المفوضية مانويل باروسو ورئيس المجلس الأوروبي (القمة) هيرمان فان رومبوي، رئيس الوزراء التونسي حمادي الجبالي في بداية الشهر، بالتطمينات والوعد الرسمي أن لا يدير الاتحاد الظهر للتونسيين الذين احتضنوا في أول انتخابات ديموقراطية حزباً إسلامياً لم يبدد بعد المخاوف كافة التي تحيط بنواياها ونقص انسجام خطاباته بين الأنصار والداخل والخارج. وتعد زيارة الجبالي الأولى التي يقوم بها رئيس وزراء اعتلى السلطة بفضل أمواج الديموقراطية التي حملها الربيع العربي في ربوع تونس. وألقى الجبالي خطابات انتُقِيَت مفرداتها بعناية من قاموس الشراكة التي بنتها تونس والدول الأوروبية منذ ما بعد استقلال الأولى في 1956. الشراكة مع أوروبا ليست موقتة أكد الجبالي أن حزبه (النهضة) «يدرك أكثر من أي حزب آخر وجود مصالح استراتيجية تربط بين تونس وبين أوروبا وأن العلاقات القائمة مع أوروبا ليست تحالفاً موقتاً». وفاجأ المراقبين بالقول «إن أوروبا خيار التونسيين الاستراتيجي». وهو بذلك قدم قراءة صحيحة في مكونات العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين تونس والاتحاد حيث يستوعب الأخير أكثر من ثلاثة أرباع تجارة تونس الخارجية ويحتضن نحو ثلاثة أرباع مليون تونسي يقيمون في مختلف دول الاتحاد. وتعمل في تونس نحو 3200 مؤسسة أجنبية غالبيتها أوروبية. كما يعد الأوروبيون نحو 80 في المئة من السياح الذين يزورون البلاد في كل سنة. وأكثر من ذلك فإن تونس تعوِّلُ على المساعدات الأوروبية المالية والتقنية لإطلاق المشاريع العاجلة التي من شأنها تهدئة الوضع الاجتماعي وإمهال الجهات المختصة فرصة بحث مشاريع تطوير البنى التحتية التي قد تغري المستثمرين بالتوجه إلى المحافظات الفقيرة داخل الجمهورية. وبدا خطاب رئيس الوزراء الإسلامي تجاه أوروبا نسخة من خطابات حكومات النظام السابق تم تحديثها بتأكيد أنصار الإسلام السياسي التونسي بأن توليهم السلطة قد يكون يوماً ما شبيهاً بتجربة الديموقراطية المسيحية في أوروبا الغربية في النصف الثاني من القرن الماضي. وقال مصدر رفيع المستوى على صلة وثيقة بالعلاقات مع دول المنطقة إلى «الحياة» إن «الإسلاميين في تونس قرأوا الأرقام الصحيحة». ويفضل كثيرون منهم مقارنتهم بتجربة تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان. وقابلت منسقة السياسة الخارجية الأوروبية كاثرين آشتون خطاب الجبالي بعبارات مطمئنة والوعد «بدعم التجربة التونسية الجارية من أجل أن تكون قصة نجاح». وأوضحت أن محادثات مطلع الشهر في بروكسيل «بداية تعاون مكثف سيدعم من خلاله الاتحاد الأوروبي الإصلاحات ومشاريع الإنماء في المدى العاجل والمتوسط والبعيد». وتمثل أيضاً نهاية مرحلة من التحضير المكثف وتبادل الزيارات بين تونس والاتحاد الذي سعى من خلال نشاط حثيث بذله المبعوث الخاص برناردينو ليون لمواكبة جهود الأحزاب السياسية وأوساط الأعمال خلال المرحلة الصعبة. ونظم برناردينو ليون مؤتمراً استثنائياً في 28 أيلول (سبتمبر) 2011 في تونس جمع فيه ممثلي الدول الأوروبية و14 من أرباب كبار المؤسسات الصناعية الأوروبية والمؤسسات المالية الأوروبية والدولية. وانتهى المؤتمر إلى وعود مالية تناهز 4 بلايين يورو. ويمثل المؤتمر الأوروبي في تونس وخطة المساعدات المالية المبرمجمة في غضون عامين 400 مليون يورو دليل حرص الجانب الأوروبي على الشد على يد التونسيين في هذه المرحلة الصعبة. ويعتقد الأوروبيون في أن تأثيرات تجربة تونس، إذا نجحت، ستتجاوز حدودها لتطاول دول المنطقة العربية التي تجتاز محنة التغيير الصعبة بخاصة ليبيا المجاورة. وإذا أخفقت تونس في اختبار اجتياز المرحلة الانتقالية مهما كانت طبيعة الأسباب الاجتماعية، السياسية أو الأيديولوجية، فإن تداعياتها ستطاول الدول المجاورة بأكملها. وتختلف تونس عن الدول الشقيقة غير النفطية بوجود طبقة وسطى عريضة شكلت القاعدة الاجتماعية لاستقرار البلاد على مدى العقود الماضية. لكنها تآكلت في السنين الأخيرة من حكم زين العابدين بن علي. وتميزت تونس بانفتاح ثقافي نجم عن تعميم التعليم بمناهج متنوعة الآفاق الثقافية والفلسفية والخدمات الأساسية وأيضاً الخطوات الجريئة التي اتخذها الحبيب بورقيبة ضد المحافظين والتقليديين، بخاصة عندما منح المرأة المساواة تقريباً مع الرجل وألغى تعدد الزوجات في 1957. وتفادى رئيس الوزراء التونسي الإشارة إلى الموروث الثقافي والقيمي التونسي الذي تراكم في البلاد منذ فجر الاستقلال. لكنه ألح أمام المحاورين الأوروبيين على أن وجود الإسلاميين في السلطة ليس تهديداً للحريات والمساواة بين المرأة والرجل. وأشار إلى «روح الاعتدال التي تقود البلاد حيث ستتزود قريباً بدستور يلتفت إلى المستقبل يؤكد تمسكها بالحريات الأساسية وحقوق المرأة وبناء دولة القانون». وأبلغ الجانب الأوروبي بأن ولاية الائتلاف لن تتجاوز السنة ونصف السنة حيث سيدعى التونسيون لانتخاب البرلمان ورئيس الجمهورية في منتصف عام 2013 تقريباً. وقال رئيس البرلمان مارتن شولتز «يتوجب على أوروبا المساعدة المادية والمساعدة أيضاً بالفهم بخاصة في ظل السيل الهائل من المعلومات». وتتساءل أوروبا حول حقيقة نوايا حزب النهضة (الإسلامي) حيث تنسب إليه ازدواجية وأحياناً ثلاثية الخطابات، خطاب معتدل في اتجاه الغرب وخطاب تحدٍّ تجاه المعارضة في الداخل وخطاب ثالث تقليدي لأنصاره من الإسلاميين والسلفيين. وعقب مارتن شولتز بأن «غالبية الأوروبيين لا تعلم حقيقة ما يجرى عملياً. ويجب فهم ما يحدث في الميدان. فحزب رئيس الوزراء التونسي يُنظرُ إليه في أوروبا في مثابة حزب اسلامي حيث يتساءل الأوروبيون عن طبيعته وما إذا كان يناهض القيم الأوروبية». ويرى شولتز إمكانية «حل هذه الإشكالات في نطاق الاحترام المتبادل لقيم كل من الجانبين لأنها في الأساس قيم مشتركة». وشدد بخاصة على أهمية تبديد المخاوف. وقال شولتز «إذا تبدد الخوف فإن السياح سيعودون. وبمقدار ما يتبدد الخوف يزداد التعاون والتبادل». 400 ألف تحت مستوى الفقر لكن أولوية الأولويات تظل كامنة بالنسبة للتونسيين في استحقاق مكافحة انتشار البطالة واتساع مساحات الفقر التي أفقدت النظام الاجتماعي توازنه أمام شدة تأثيرات العولمة والأزمة الاقتصادية العالمية إلى درجة من الضعف أدت إلى سقوط نظام الرئيس السابق بن علي في أسابيع قليلة بين نهاية 2010 وبداية 2011. وأسقطت تونس الأقنعة وأماطت اللثام عن الحقائق الاجتماعية والاقتصادية المفزعة. واكتشف العرب والأوروبيون معاً الحقائق التي أغفلوها حيث رأوا دائماً في تونس بطاقة سياحية فيها اللون الأزرق وباقة الياسمين وبياض جدران ضاحية سيدي بوسعيد في شمال العاصمة. وقالت آشتون في مؤتمر مصغر مع رئيس الوزراء حمادي الجبالي إن «تونس تواجه تحدياً كبيراً يتمثل في ارتفاع البطالة واتساع مساحة الفقر حيث يعيش نحو 400 ألف تونسي تحت مستوى الفقر». وأكد حمادي الجبالي أن الائتلاف الحاكم يقود البلاد في مرحلة تقتضي إدارة «المعادلة الصعبة المتمثلة في التنمية والديموقراطية». وقال إن 200 ألف جامعي يعانون البطالة ويشكلون «كارثة إنسانية». ولم تنفرد الثورة التونسية عن غيرها من حركات التغيير الكبرى حيث لا تثمر الثورة ثروة في المرحلة الأولى. وقد ارتفع عدد العاطلين من العمل من 500 ألف في عهد بن علي إلى ما يناهز 800 ألف نتيجة الإضرابات والاعتصامات العشوائية حيث دفعت بعض المؤسسات إلى وقف نشاطها موقتاً. وتفاعلت الصعوبات الاجتماعية مع غياب السلطات الأمنية وإحباط جزء من الإدارة فأنتجت مناخ عدم الاستقرار الذي أربك بعض المستثمرين وقطاعات واسعة من الرأي العام. وسعت الحكومات التي توالت في العام الأول للثورة إلى تهدئة غضب جمهور العاطلين من العمل وفي شكل خاص الفقراء في الأحياء الشعبية في المدن الكبرى وفي المحافظات الداخلية، القصرين وقفصة وسيدي بوزيد، من خلال تسجيلهم في وظائف وهمية تمكن «العامل» من الحصول على قيمة 100 يورو في الشهر من دون أن يقوم بأي عمل تقريباً وفي أحسن الحالات ينظف الرصيف أو عشب ملاعب كرة القدم. ويقدر عدد المنتفعين من المشاريع الوهمية العاجلة في القصرين ب12000. وكذا الأمر في كل من المناطق الأخرى. وتجد حكومة الجبالي نفسها الآن أمام خيارات عويصة، فإما أن تواصل هدر الموازنة العامة في حظائر وهمية أو تقطع المعونات وبالتالي تخاطر بتفجر ثورة ثانية في ظل انفلات شبه كامل في المؤسسات العامة. وتحاصر طوابير العاطلين مقار الدولة تحت أعين قوات الأمن وناقلات الجنود الذين يحاولون حفظ الأمن وردع أعمال التطاول على المسؤولين. ولا ينجو أحد من هؤلاء سواء كان زائراً أو مسؤولاً. وأدى التسيب الأمني بخاصة في الأسابيع الأولى من حكم الائتلاف الثلاثي نوعاً من «التمرد» على قيم المجتمع من قبل فئات سلفية لم تعهدها البلاد. فاعتصم بعضهم في كلية الآداب في تونس من أجل فرض دخول منقبات إلى قاعة الامتحان، وهو ما رفضته الإدارة والمجلس العلمي للكلية. كما تطاول آخرون من الملتحين على جامعيين في مدن أخرى ومثقفين حضروا محاكمة تجرى في تونس في حق محطة مرئية بثت الفيلم الإيراني «بيرسيبوليس». ورأى أنصار الرقابة في مشهد قصير من (أقل من 30 ثانية) مساً بالذات الإلهية. ويتطاول البعض من هؤلاء على النساء في وسائل النقل العام لأنهن لا يلبسن لباساً «إسلامياً»... ويصل الإرباك الأمني إلى درجة الخطر الدائم نتيجة محاولات تهريب الأسلحة من ليبيا حيث تكررت حالات المواجهة بين قوات الجيش والمجموعات المسلحة وآخرها أجريت في بلدة «بئر علي بن خليفة» في محافظة صفاقس، في جنوب شرق تونس، أول شباط (فبراير)، أثناء وجود رئيس الوزراء في بروكسيل. وقال في اتجاه السلفيين «هناك استنفار كبير في صفوف المجتمع المدني والشعب يرفض المغالاة والتطرف ولا يقبل العنف والإكراه تحت أي مسمى ولا يمكن أن يقبل بغير السلطة الشرعية». وشدد على أن «هذه الظواهر مرفوضة». وترفض الحكومة «الابتزاز باسم الإسلام من السلفيين أو البلشفيين». ويشكل السلفيون تحدياً كبيراً بالنسبة إلى المجتمع ككل وحزب النضهة بصفة خاصة. وقد تدفعهم حماستهم إلى الضرر بصدقية الجهود الجارية من أجل تأمين الاستقرار واستعادة ثقة المستثمرين والسياح. فالمتشددون من السلفيين ينعمون الآن بحرية الرأي والتجمع. فيقومون بتشكيل مجموعات تزعم معادوة نشر الدعوة في بلاد عقبة بن نافع قائد فتوحات شمال أفريقيا، ولا تتردد عن التدخل في شؤون المواطنين والتحرش بالنساء والمثقفين. وتتميز هذه المجموعات بانعدام تجانسها، بعضها «سلفي علمي» وآخر «جهادي». وغالبية النشطاء فيها يعيشون على هامش المجتمع وقد يكونون تعلموا الإسلام من طريق بعض الفضائيات. وقد يتلهى هؤلاء بإيذاء المثقفين والعلمانيين والتطاول على المؤسسات العلمية والتربوية. لكن أذى المتشددين سيطاول أيضاً الإسلاميين المعتدلين، إذا ظل البعض من هؤلاء يعتبر ما يجرى مجرد مناوشات ناجمة عن الانفلات الأمني.