يتذكر المثقفون العرب الكاتبة الجنوب أفريقية نادين غورديمر جيداً. هذه الروائية المكافحة ضد العنصرية في بلادها والعالم، والتي كان يعدّها إدوارد سعيد «نموذجاً للمثقف المناضل» حلّت ضيف شرف على معرض القاهرة للكتاب عام 2005 وزارت نجيب محفوظ في داره مع جمع من الإعلاميين، وكان لقاؤهما جميلاً ومؤثراً وبعيداً من «نجومية» جائزة نوبل التي حصل عليها كلاهما. كان لهذه الزيارة صدى طيب، أدبياً وسياسياً. فهذه الكاتبة تمثل رمزاً من رموز النضال ضد العنصرية والظلم واللاعدالة، وهي عاشت تجربتها النضالية بروحها وجسدها، بقلمها وقلبها، وعانت مثلما عانى مواطنوها السود في ظل نظام عنصري قاس ومتعنت. ولكنْ لم تمض ثلاثة اعوام حتى أثارت نادين غورديمر حفيظة كثيرين من المثقفين العرب والفلسطينيين، عندما وافقت، بعد تردد، على أن تحل ضيف شرف على معرض الكتاب الإسرائيلي عام 2008 وهو تزامن مع احتفال الدولة العبرية بالذكرى الستين لاحتلالها فلسطين وارتكابها جريمتها التاريخية الرهيبة، قتلاً وتهجيراً واقتلاعاً وهدماً... حينذاك تدخل الروائي الإسرائيلي (الكبير، شئنا أم أبينا) عاموس عوز وأقنعها بالزيارة مبدّداً حال ترددها. لكنها اشترطت على الإسرائيليين أن تلتقي مثقفين فلسطينيين، وكان هذا شرطاً واهياً كما بدا لاحقاً، فهي لم تلتق سوى بضعة أكاديميين من فلسطينيي الداخل. لم يكن المأخذ العربي على هذه الكاتبة زيارتها الدولة الإسرائيلية، فالكتّاب العالميون يزورون هذه الدولة دوماً، علاوة على بضعة كتاب عرب زاروها، سراً وعلانية. أخذ المثقفون العرب عليها موقفها المتهاون الذي أعلنته في تلك الذكرى الأليمة، إزاء الصراع العربي - الإسرائيلي، معتبرة إياه صراعاً دينياً في الجوهر، وليس سياسياً ووطنياً ووجودياً، بل ليس صراعاً بين جلاد وضحية، بين دولة اغتصبت الأرض وشعب هو صاحب الأرض، بين كيان اسرائيلي عنصري وكينونة فلسطينية حقيقية، مسيحية وإسلامية. وكان المثقفون العرب يأملون منها بأن تدين السياسة الإسرائيلية العنصرية وأن تتذكر دفاعها عن مواطنيها السود ودعوتها إياهم إلى التمسك بالأرض مثلما تمسكت هي الإفريقية البيضاء، بهذه الأرض، ورفضت مغادرتها، مواجهةً اضطهاد النظام لها. غير ان نادين غورديمر ظلت صديقة العرب على رغم سوء فهمها القضية الفلسطينية، وظل لها اصدقاء عرب وقراء، وتُرجمت لها الى العربية روايات وقصص في مصر وسورية وسواهما، وكتبت الصحافة عنها وحاورتها. هذه كاتبة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، فالقضية التي يتمثلها أدبها تعني العالم أجمع وتصب في الثقافة «الإنسانوية» (أومانيسم)، وهي التي فتحت لأدبها سبيلاً إلى العالمية وإلى جائزة نوبل التي استحقتها بجدارة. وقد أشار بيان الجائزة حينذاك (1991) الى أن أدب غورديمر يجعل القارئ وجهاً لوجه أمام العنصرية العرقية. وهذه القضية العظيمة، قضية مواجهة العنصرية، التي وقفت غورديمر عليها أدبها وحياتها، لم تُمسِ من إرث الماضي، بعد سقوط نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا وقيام الدولة الديموقراطية، بل هي أصبحت من المرجعيات الثقافية والأدبية التي تؤرخ لظاهرة أرهقت الحضارة البشرية، بخاصة أنّ العنصرية ليست دوماً عرقية بل يمكنها ان تكون دينية وطبقية واقتصادية، وهي لم تزُل نهائياً مع بزوغ شمس القرن الحادي والعشرين، بل لعلها ازدادت في بعض بقاع هذا العالم وإسرائيل خير مثال يؤخذ به في هذا القبيل. كتبت غورديمر نحو إثنتي عشرة رواية ومئتي قصة قصيرة ومقالات سياسية، وتراوح أدبها بين مناهضة العنصرية والبعد «البيئي» أو المكاني. وبعض شخصياتها عاشت مغامرة الامتزاج العرقي، رجل أسود يتزوج من امرأة بيضاء أو العكس. وشبّهت الكاتبة هذا التزاوج مرة ب «الحروف السوداء المكتوبة على صفحة بيضاء». وفي معالجتها هذه المسائل الشائكة كانت عميقة ودقيقة وشبه كلاسيكية وابتعدت كل الابتعاد عن إشراك «البروباغندا» و»الكليشهات»، فهي كانت تشعر انها بيضاء ظاهراً، سوداء في القلب والألم والمعاناة. وكتبت في هذا الصدد: «لو كنت سوداء لما استطعت ان اصبح كاتبة. فالسود كانوا ممنوعين من دخول المكتبات». تُرجمت غورديمر الى لغات شتى وراجت رواياتها شعبياً واحتلت موقعاً متقدماً في ما يسمى «آداب الشعوب» والأدب النضالي والأدب النسوي. لكنها لم تترك كبير أثر في معالم الحركة الروائية العالمية ولم يحمل ادبها ملامح تجديد وتحديث، وهي لم تسعَ أصلاً الى اختبار التقنيات الروائية الحديثة وما بعد الحديثة. أدبها يميل كثيراً الى أن يكون كلاسيكياً ونيوكلاسيكياً، ووصف بعض النقاد اسلوبها ب «المسطح» (وليس السطحي) والمكتوب بدقة ووعي. وعبّر بعض المترجمين العالميين عن صعوبة أدبها في الترجمة نظراً الى متانته وصلابته. اما هي فلم تكن تؤمن بما يسمى «اسلوباً» فالأسلوب بنظرها هو سليل الرواية نفسها وكل رواية تفترض اسلوبها. قراءة نادين غورديمر بعد رحيلها هي غير قراءتها من قبل. الآن سيقرأ محبوها وهم كثر، أدبها وكأنهم يقرأون أدباً كُتب في حقبة كانت ووّلت. لكنّ فرادة غورديمر تكمن في كلاسيكيتها الجديدة التي جعلت ادبها قادراً على مواجهة الزمن انطلاقاً من ذاكرته التي هي اولاً وآخراً ذاكرة البشر والحياة.