لا تحتكم الناقدة السعودية لمياء باعشن في اختياراتها النصوص إلى شيء، باستثناء النصوص نفسها، «هي التي تحدد الدافع وترسم الطريق». تتحول النصوص الروائية التي تتناولها في كتابها الجديد «البصمة الشبحية» (نادي مكة الأدبي ودار الانتشار العربي)، إلى إمكانية مفتوحة على تأويلات لا تنتهي، تستوعب المناهج والنظريات على اختلافها. تختبر لمياء باعشن كلاً من النص والنظرية في آن، فتفحص قدرة النص على قول ما لا يقال عادة، أي إنتاج مقولته الخاصة التي يتفرد بها عمّا سواه من نصوص، وتتأمل في الوقت نفسه إمكانات التطبيق التي تتيحها النظرية والمنهج معاً، عبر تفعيلهما المباشر على أرضية النص. وفي المسافة بين ما يقوله النص وما تتيحه النظرية، نعثر على لمياء باعشن بصفتها فاعلية نقدية، على مقدار كبير من الأهمية، لها جملة نقدية تميزها المتانة والبعد عن الركاكة. كما لا يعود النص الروائي الذي تخضعه للفحص والمساءلة، هو نفسه في ذهن القارئ وحتى المؤلف، إذ يصبح مختلفاً، ثرياً ومتعدداً ومشرعاً على الاحتمالات كافة. تمر القراءة عندها بمراحل، قبل أن يتأكد لها أن النص، موضوع القراءة، هو ما تبحث عنه لتلبية طموحها النقدي. القراءة لديها قراءات وليست قراءة واحدة، تفقدية أولاً، تدخل من خلالها إلى النص «كمتسوق في متجر، فإن لاحت به بوارق تبشر بعطاءاته»، بدأت قراءتها التمحيصية الثانية، لتصغي من خلالها للإشارات وتجمع الأدلة المتفرقة، وبعدها تنطلق في قراءتها الثالثة «التي ترسم مساراً مخالفاً لما يشي به النص على أسطحه، لأبني قضيتي الفكرية القائمة على المعاني المتوارية والمنزوية بين ثناياه». وفي القراءة الرابعة تصل إلى نظرة شمولية تحاول «ألا تهمل أي تفاصيل، ربما تثري الموضوع أو تعضد سماكته». تقول لمياء باعشن، التي يصعب تفادي اسمها حال تأمل المشهد النقدي في السعودية، نظراً إلى ما عرف عنها من اهتمامات أصيلة في مجالات النقد والأدب، إن النص الذي يتحمل هذه المراحل القرائية الأربع، هو الذي يدفعها إلى تناوله. وتشير إلى أن كل ناقد يتفاعل مع مختلف النصوص بطرق مختلفة، «فهو قد يقرأ من دون الاندفاع لإنتاج كتابة موازية، وقد يتقدم لقراءة نص بغرض الكتابة عنه، ثم يعجز عن ذلك تماماً، كما أنه لن يستطيع مقاومة الانجراف للكتابة عن نص ثري يستفزه جمالياً ومعرفياً». ومثلما تعتمد الكتابة النقدية على درجة جودة النصوص، أيضاً تتوقف، بالنسبة لها، على الخلفية المعرفية للناقد وموهبته. انشغلت صاحبة «التبات والنبات» بالتفكيك في كتابها الجديد الذي يتضمن دراسات حول روايات لكاتبات وكتاب سعوديين، وأخذت على عاتقها شرح هذا المفهوم في مقدمة طويلة، لا تخلو من تعقيد، وجهدت في محاولة إضاءته. ومع أن المفهوم في رأي بعض النقاد أصبح شائعاً، وبات معظم المشتغلين فيه يطلقونه على كتاباتهم، من دون حاجة إلى وضع مقدمة «مركبة»، إلا أن الناقدة والأكاديمية لها مبرراتها، فكون التفكيك أصبح شائعاً كمفردة، لا يعني من وجهة نظرها، أنه أصبح مفهوماً كنظرية، ولا واضحاً عند جميع القراء، «شيوعه لا يعفيني من شرح الأسس التي ينبني عليها عملي في مقدمة كتابي». وترى أن هناك قوانين للكتابة النقدية الجادة لا يمكنها تجاوزها، «قد يستخف البعض بالمقدمات ومحتوياتها، أو يطوي الصفحات الأولى ويتجاوزها، لكنها تبقى في الحقيقة ركناً مهماً من أركان الكتب، مهمتها التأسيس والتقديم، بمعنى مساعدة القارئ على تلمس طرق الدخول إلى فصوله وأجزائه، ومهما كان علم القارئ واسعاً فهذا لا يعني أن يلغي الكاتب مقدمته». تشجع بعض النصوص في كتاب «البصمة الشبحية»، على التطرق إلى أساطير ومفاهيم متشابكة، إلا أن ما يحدث أن ذلك يطغى على المساحة المخصصة للنص نفسه، موضوع القراءة، إذ لا تبقي له الاستدعاءات أحياناً سوى مساحة ضئيلة. وتوضح باعشن، في حديثها ل «الحياة»، اللجوء إلى مثل هذه القراءات، قائلة: «إن روعة التفكيك تكمن في أنه يتيح التزاوج مع نظريات إجرائية أخرى، فهو ليس آلية في حد ذاته بقدر ما هو توجيه قرائي». وتلفت إلى أن بعض النصوص التي تعاملت معها تعد «نماذج رائعة لانفتاح النصوص على الفكر الإنساني وللتواصل الفكري بين المبدعين، على رغم التباعد الزمني والانفصال المكاني». بالتالي، فإن كلمة واحدة، كما تقول، قد تستدعي عشرات المرجعيات، وتقود إلى إحالات متجاوزة النص ذاته. وعلى رغم كثرة الاستشهادات واللجوء إلى الجداول أحياناً، فإن صاحبة «حكاية شعبية من العربية السعودية» (كتاب صادر في الإنكليزية) تتطلع إلى أن يكون عملها إبداعياً، فهي ترى أن الإبداع ليس مجرد كتابة وممارسة موهبة في جميع مراحلها، «إنما أن تتمرس في الكتابة والقراءة والاطلاع والتثقف إلى أن تأتي بالجديد غير المسبوق، أي أن تصبح قادراً على مخالفة المعارف المكتسبة بالابتداع والإبداع». وتعتبر أن الخلفية الأكاديمية «من روافد الإبداع ومحفزاته، وهي بمثابة تسليح الموهوبين ودعم طاقاتهم». ثلاث كاتبات في مقابل سبعة كتاب يحضرون في كتابها، قد لا يعني هذا غلبة للكُتاب على الكاتبات، ولا تمييزاً لكتابة على أخرى، فهي لا تتوقف عند جنس الكاتب، لأن نقدها التفكيكي يبحث عن نصوص ثرية بالدلائل «التي تسمح لها بالتلوّن والتقلب على أوجه مختلفة وبأشكال متماسكة. نصوص تتدفق بين سطورها إشارات عميقة تقود القارئ إلى فضاءات مغايرة ومثيرة ومدهشة». ولا تتحرج لمياء باعشن من الزعم أن كتابها مشروع نقدي، عملت عليه بدقة وجهد واهتمام زمناً طويلاً، فهو مشروع يفاخر، كما تقول، بوضع النصوص السردية السعودية «في مصاف روائع الأدب الإنساني، بعد إخضاعها لأعقد المعايير التأويلية في نظرية النقد الأدبي». ولئن جاء كتابها يشبه تلك الكتب التي تنطوي على تجميع لمقالات وأوراق متفرقة، تخضع لطبيعة المؤتمرات واللقاءات التي يشارك فيها أصحابها، إذ إنها جمعت كتابها من أوراق بحثية سبق لها أن قدمتها منفصلة في مؤتمرات أدبية، إلا أن كتابها نفسه ينجو إلى حد كبير، مما يمارسه بعض أولئك النقاد عند إعداد كتبهم للنشر في كتاب، عندما يعمدون إلى الربط في ما بين المقالات المتفرقة، عبر مقدمة تزعم أن مادة الكتاب تعكس هموماً مشتركة، وتعبر عن هدف واحد، إلا أنه في حال القراءة يكتشف المتلقي العكس، «كنت حريصة خلال كل تلك المؤتمرات على تتبع خط تأويلي واحد لا يتغير، وهو التفكيك مع اختلاف النصوص. والقارئ سيجد أن مقدمات الأوراق وشروحاتها تحمل أصداء مقدمة الكتاب أيضاً، كونها جزءاً من عمل متكامل». لدى باعشن التي عرف عنها الولع بالموروث الشفاهي لمنطقة الحجاز، والعمل على جمعه، خططها ومشاريعها النقدية، لكنها في الوقت نفسه تعاني مشكلة عدم وجود المحفز للبدء بها أو لإنهائها، ومن هنا يأتي دور المؤتمرات أو الندوات التي توفر لها هذا المحفز الزمني، «بمعنى أنني أتحين فرص الضغط بتسليم الأوراق في وقت معين، لولاه لما أنهيت عملي في حينه». غياب المحفز أو انقطاعه، جعلها أيضاً لا تواصل الكتابة في تجربة فريدة قلّما نطالع شبيهاً لها، ونشرت بعضها في «الحياة»، وكانت عبارة عن تأملات في كنه الصمت، مستنيرة بتجلياته في الآداب والفنون والمقدسات والأساطير، «فالإبحار في عالم الصمت ممتع ومدهش، ومهيأ للتطويل إلى حد إنتاج كتاب كامل، ولكني وللأبد في حاجة إلى تحفيز زمني لأكمل أية مهمة كتابية، وكانت المقالات تقوم بهذا الدور وتجبرني على الكتابة في شكل منتظم إلى نظم الأفكار، وبالتالي فقد توقفت الكتابة مع توقف المقالات». وطالما انبرت لمياء باعشن للدفاع عن حقوق المثقفة وموقعها في الخريطة الأدبية، ليس من منطلق «نسوي»، إنما ضمن سياق تتحكم فيه رؤية عميقة وشمولية للفعل الثقافي، وهي تؤكد أن المنجز النقدي النسائي «يرفد النقد في السعودية بأطروحات نقدية بارعة، تضمن لكاتباته مكاناً مرموقاً»، مشيرة إلى البحوث الجادة والمميزة للناقدة فاطمة الوهيبي في مجالات نقدية عدة، ولم تغفل الحضور البارز للدكتورة سعاد المانع، إضافة إلى فاطمة إلياس وميساء خواجة وأميرة الزهراني وأمل القثامي، وكذلك سماهر الضامن وجهودها الملموسة في النقد النسوي. كتبت لمياء باعشن في مواضيع ثقافية وأدبية مختلفة، وتابعت بانفعال أحياناً بعض قضايا الثقافة، وانتقدت بحدة وزارة الثقافة وموقفها من المرأة، وكانت لها رغبة في أن تكون رئيسة النادي الأدبي في جدة، فهي تعتبر المشهد الأدبي والثقافي في السعودية كُلاً لا يتجزأ، ولا تفهم فكرة الانقطاع الفكري أو العزلة الثقافية أو المقاطعات المواقفية، «لا أستطيع أن أفصل الثقافة عن أجوائها ولا الأدب عن أهله. كل ما يدور حولي من قضايا الثقافة يصب في صميم اهتماماتي، يستفزني ويغضبني، ويسعدني ويحمسني، وليس هناك ما لا يثير فضولي، ولا ما لا يحرك تفاعلي». تشدد لمياء باعشن على بقاء الثقافة مستقلة، وأهمية ألا تتبع المؤسسات الرسمية، التي تنتظر المبادرات الفردية لتدعمها وتساندها. ومثلما انتقدت طويلاً المؤسسة الثقافية الرسمية وفي مقدمها وزارة الثقافة نفسها، فإنها أيضاً وجهت نقداً لاذعاً للمثقفين الذين لا يحضرون إلى المؤسسة، سوى كمتفرجين، «خالي الوفاض وكمنتقدين فقط، على رغم خلو أذهانهم من الأفكار التي من الممكن أن تتبناها المؤسسة»، موضحة أن المثقف لا ينتبه للمؤسسة إلا حين تعقد مؤتمراً أو فعالية كبرى، «حينها يبدأ الانتقاد السلبي المعتاد مع كل مناسبة، والدائر حول نقطتين لا تتغيران، توزيع دعوات الحضور، وسخط كل من لم تتم دعوته، وبرنامج المناسبة والادعاء بتكرارية المواضيع والأسماء. هذه خلاصة علاقة المثقف بالمؤسسة».