بودي أن أثير قضية معرفية خاصة وأطل عبرها على مشكلة ثقافية عامة تتجاوز الكتاب ومروياتهم والنقاد و تنظيراتهم . وللمسألتين علاقة مباشرة بفعاليات الدورة الأخيرة من ملتقى قراءة النص الذي نظمه نادي جدة الأدبي – الثقافي نهاية الأسبوع الماضي وشاركت فيه نخبة من الأسماء التي جاءت من أقطار مختلفة لتحاور الخطاب الروائي في الجزيرة العربية . فالمشاركات كانت كثيرة، وربما فوق ما ينبغي، أما المحصول فمتفاوت، ولا بد أن يترك الحكم له أو عليه للقراء الذين سيطالعون المقاربات منشورة في "علامات " قريبا على ما نأمل . ولو استعملت صيغة مباشرة لتأطير القضية والمشكلة لقلت أن غازي القصيبي لعب على ناقد من أهم الباحثين في مجال السرديات العربية اليوم هو صديقنا عبدالله إبراهيم الذي يسعد كثير من القراء بإطلالته الأسبوعية الجادة على صفحات هذا الملحق تحديدا . وإليكم التفاصيل . قدم الناقد ورقة بعنوان " سمر وليل وسرد كثيف " وهي قراءة حرة، كما وصفها هو ذاته، لثلاث روايات : " سمر كلمات " للكاتب الكويتي المتميز إبداعا وخلقا طالب الرفاعي، و" العصفورية"، و "الغيمة الرصاصية " لرمزين يشعان في وسطنا الثقافي منذ عقود هما غازي القصيبي وعلي الدميني . وبعد عرض مطول نسبيا لتحولات النظرية النقدية الحديثة ولتحولات موقف الذات منها قدم الباحث قراءة موجزة للروايتين الأولى والثانية، وتداركه الوقت فلم يقل شيئا عن الثالثة . ولا مشكلة هنا حيث الجميع يدرك أن ما يعرض من البحوث ليس سوى جذاذات أو خلاصات تكشف عن مدى قدرة الناقد على استثمار الوقت المتاح لقول الأهم وترك التفاصيل . المشكلة الحقيقية تتعلق إذن بما قيل لنا . فهو يكشف ضرورة عن منهجية القراءة وينبئ بمدى فعالية إجراءاتها ووفرة محصولها . هنا تحديدا تبرز القضية المعرفية الخاصة التي أريد التوقف عندها أولا . فالنص الذي ينجزه المبدع المحترف هو نتاج خبرات حياتية وفكرية وجمالية متنوعة لا يستطيع الناقد حصرها وليس مطالبا بذلك أصلا . وحينما تتحول إلى عمل تخيلي فلا بد أنها تتوارى خلف أقنعة متنوعة، وقد تكون من الكثافة بحيث يصعب تبين آثارها المتحققة في نص هو بمثابة الثمرة التي نراها على فرع صغير من الشجرة الكبيرة . وهنا سيكون التأمل النظري مبررا، بل وضروريا لتفهم البعد المعرفي للقضية . فالناقد يوظف هو أيضا خبراته الحياتية والمعرفية والذوقية الخاصة في كل قراءة ينجزها لنص أو لمتن ما . ولكي نتفهم طبيعة العلاقة بين الطرفين يمكننا تصنيفه القراءات في مقولات منطقية، قد تبدو مبسطة لكنها تظل وجيهة تماما في المستويين النظري والعملي . فثقافة الناقد إما أن تكون مكافئة لثقافة الكاتب أو تكون متجاوزة لها أو قاصرة عنها . نعم، ليس هناك معايرر محددة لقياس هذه السمات بدقة علمية صارمة، لكننا نستطيع تبينها حينما نتابع مجموعة مختلفة من القراءات لنص محدد أو لمتن معين ( موسم الهجرة إلى الشمال، أو أنشودة المطر، الرواية المحفوظية أو شعرية محمود درويش ) . فالقراءة المكافئة عادة ما تنفذ إلى عمق العمل الأدبي فتكشف ما لا يستطيع القارئ العادي اكتشافه بنفسه، وما قد يفاجيء الكاتب ذاته حين يجدها تغني عمله بأبعاد توسع دوائر تأويله وتنوع آفاق تلقيه . والقراءة المتجاوزة هي التي ما إن تطبق سلسلة من المفاهيم الواصفة والمفسرة على نص ما حتى تتمكن من تفكيك عناصره والكشف عن الكثير من أسباب تهافته في المستويين الفكري والجمالي، ولا بد أن تنجح في إقناع القراء بأن العمل ضعيف مقارنة بما هو سائد أو شائع من الأعمال المماثلة في هذا السياق أو ذاك . أما القراءة القاصرة فهي التي تحاول تفهم النص فينغلق عليها أو يمكر بها فلا تقول شيئا جديا وإن ثرثرت كثيرا في بعض القضايا الشكلية والدلالات الجزئية . وفي كل الأحوال فإن النصوص الأدبية المتميزة حقا تظل أعلى مستوى من كل قراءة نقدية. والدليل البسيط والواضح على ذلك أن بعض الأعمال تظل تقاوم القراءات وتغوي المزيد من النقاد باستمرار وكأنها تعطي لكل منهم ما يريد ولا تقدم كل شيء لأحد قط . وللقضية المعرفية بعد آخر هو الذي يطل بنا على المشكلة الثقافية . فلقد بدا لي، ولغيري ربما, أن الدكتور عبدالله إبراهيم دخل عصفورية القصيبي ولم يخرج منها بطائل . وليس السبب عدم كفاءة الذات الناقدة التي يشهد لها منجزها المعرفي المتميز كما قلت آنفا، بل عدم كفاية الجهد الذي بذل للحوار مع نص ملتبس ماكر بكل المعاني . فالرواية بدت له خرقا للميثاق السردي الشائع نظرا لأن سارد الحكاية وبطلها هو شخص مجنون أو مريض نفسيا . وتنوع الموضوعات وتعاقبها بشكل سريع ومتشعب مثل له دليلا آخر على جنون ذلك البروفيسور الذي أصبحت اللغة تهذي على لسانه لتقول كل شيء دون أن تفضي إلى شيء . ولا غرابة في هذا التأويل لأن الفضاء الروائي كله بدا لصديقنا مستشفى حقيقيا يدخله المرضى للعلاج لا غير! . وباختصار أقول إن سقف التوقع كان عاليا لكن خيبة الظن كانت بانتظار الجميع . وقد تنبه الدكتور سعيد يقطين، وهو حجة في السرديات أيضا، إلى خفة القراءة حين أكد أنه لا توجد قراءة مقيدة بالنظرية وقراءة حرة، بل قراءة معرفية وأخرى غير معرفية، وبناء عليه تساءل عما إذا كان هناك رابط منهجي بين الكلمات التي تبرز في عنوان المقاربة . وبعده مباشرة قلت إنني لم أكن أنتظر من ناقد جاد مثله عرضا مسهبا للنظرية بل خلاصة تركيبية تكثف محصول الجهد وتبين لنا كمتلقين نوعيين ما بين هذه النصوص المختلفة من علاقات التشاكل التي تستكشفها القراءة وتبرزها لأنها هي التي تعنينا . ونظرا لكوني قد أنجزت قراءة قديمة نسبيا للنص ذاته ألقيت محاضرة في النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية، ثم نشرت لاحقا في النص الجديد، فقد كنت مضطرا للتوسع في الحوار، وللتذكير ببعض البدهيات لاغير . فتيمة الجنون هنا حيلة سردية اختارها الكاتب بقصدية مسبقة كما اختار في روايته الأولى تيمة التعلم . والبروفيسور لا يختلف في العمق عن شخصيات كثيرة نجدها في روايات للطاهر بنجلون والميلودي شغموم ودستويفسكي والطيب صالح- طيب الله ثراه - فضلا عن سرفانتيس الذي أصر الناقد على أن بطله دون كيخوت أعقل العقلاء وأنبل النبلاء ( وقد أشارت الدكتورة لمياء باعشن إلى أن المجانين حاضرون في روايات غربية كثيرة ) . وتلك اللغة الاستطرادية المتدفقة أسلوب هذياني معروف في كل الآداب، وقد نصادفه في قصة قصيرة أو في مسرحية أو في فيلم سينمائي عظيم كطائر فوق عش المجانين .. الخ . وإذن لا يوجد خرق لميثاق سردي أو شذوذ عن سنة أدبية معتبرة لأن القضية كلها لعبة ماهرة ماكرة اختارها الكاتب ليقول بلسان الجنون الحر المنطلق ما لا يمكن قوله بلسان العقل المعتقل المقيد في مجتمعاتنا ! . وهنا تتسع القضية لتطل بنا على تلك المشكلة التي قد يعدها البعض واحدة من معضلات الثقافة العربية، ولا أظنها خاصة بالعصر الحديث . فهذه الثقافة لاتزال تحتكم في جل تصوراتها عن الكون والإنسان إلى مرجعيات تقليدية قديمة، بل وعتيقة، هي التي تجعل الغالبية العظمى من أتباعها وممثليها يتوهمون ويصدقون أنهم وحدهم الذين يقبضون على جمرة الحقيقة أو على تمرتها . ومن يغامر أو يجتهد في مساءلتها لتعديل تصوراتها أو تفكيك حقائقها الصلبة لتتحول إلى أفكار ورؤى وتصورات بشرية عادية يجوز عليها ما يجوز على غيرها من الثقافات يتهم بانحرافات شتى قد تفضي به إلى التورط في مأساة حقيقية كما حدث كثيرا بالأمس وكما يتكرر اليوم بين حين وحين . لهذا السبب يشيع منطق التحايل على الواقع القائم في كتاباتنا الواعية بالخلل والراغبة في فضحه بصيغ ترميزية غير مباشرة منها هذه اللغة الساخرة المعهودة في كتابات أدباء بارزين منذ الجاحظ إلى الشدياق والمازني وزكريا تامر . وبصيغة أخرى نقول إن منطق التحايل على اللغة الرسمية المعتبرة باللغة الشخصية الماكرة يبدو للذات الكاتبة وكأنه "الطريق الوحيد " المتاح أمام الوعي المحاصر الذي يثقل على الذات المثقفة فتصرفه بهذه الصيغة المرحة الجذابة كما فعله عزيز نيسين في رواية فاتنة بهذا العنوان . ولسنا مطالبين بأن نعد " العصفورية " نصا فريدا من نوعه، أو متجاوزا لغيره . فهي، وروايات القصيبي الأخرى،يمكن أن تموضع في مستوى المتوسط الجيد، وقد وضع هو ذاته شعره في هذا الرتبة مما يدل على وعي جاد بالشعر لا على مجرد التواضع ( ومن يترجم ريلكه غير شاعر يحب الشعر ويدرك مراتبه ؟ ) . لكن الكاتب يظل شخصية ثقافية أكثر غنى مما نجده في نصوصه الأدبية المفردة . فهو أكاديمي بارز ومثقف واسع الاطلاع، ومبدع متعدد الطاقات، ولعل وعيه النقدي الملتزم بموقف فكري يؤمن بقدرة الإنسان على التقدم وبحقه فيه وبواجبه في السعي إليه،هوالناظم العميق لكتاباته الغزيرة، وفي أكثر من مجال كما نعلم . والناقد المجرب المحترف الذي يتخلى عن حذره وهو يقارب نصوص أديب - مثقف بهذه الصفات سيتورط حتما في أحكام متعجلة وتأويلات مبسطة لن تقول جديدا . الطريف أن البروفيسور, وكم كان الكاتب ماكرا حين لم يسمه، يبدو من الذكاء والخبرة بحيث تنبأ بقراءة كهذه وحيدها مسبقا بمعنى ما . فكلامه، الساخر حد القسوة، عن هذه الفئة من الباحثين يكشف عن يأسه منها ومن مجمل النخب الثقافية المهيمنة اليوم على الفضاء الثقافي العربي، وهو ذاته واحد منها ! . و بناء عليه نتساءل : ماذا يمكن أن يقال عن ناقد في بداية الطريق ؟ . ليس لدي نية في إلقاء درس في غير مقامه . أريد أن أختم بكلمة أرجو أن تجمع بين القضيتين لأنهما متلازمتان في العمق . فهناك أسماء جادة واعدة، ومن الجنسين، نسعد بالتعرف إليها في كل ملتقى ونأمل أن تؤسس مجهوداتها لخطابنا النقدي وتمضي به خطوات إلى الأمام كي لا يظل جهودا فردية متناثرة كما هي عليه الحال اليوم . ولكي يتحقق شيء من هذا لا يكفي تمثل المقولات المعرفية التي تسمع في المحاضرات أو تقرأ في كتب النقد . فهناك حاجة ماسة للتعمق في الفكر الفلسفي الذي منه تولدت النظريات النقدية قديما ولا يزال يغذيها بالأطروحات الكبرى إلى اليوم . نعم، لا يوجد اليوم نقد في جهة وفكر في جهة أخرى لأن الفكر إما إن يكون نقديا أو لا يكون مثلما يقول عبدالله العروي . وإذا كانت جهود فاطمة الوهيبي تلفت النظر اليوم أكثر من غيرها فذلك لأنها تمكنها من المعرفة النوعية وتشبعها بالفكر يجعلها تمثل إضافة نوعية لما قبلها . وألح على هذه المعرفة التخصصية الدقيقة المعمقة وعلى ذلك الفكر المتنوع المتسع لسبب أكثر وجاهة لأنه يتعلق بروايتنا الجديدة تحديدا . فنحن أمام نصوص أصبحت تمثل في مجملها خطابا جديدا علينا، والخطاب يكتسب المزيد من الجاذبية لأنه يطرح تساؤلات جريئة, ويثير قضايا فردية واجتماعية وإنسانية مشكلة حقا، والتعامل معه بتعجل أو بخفة هو من قبيل العمل الذي يشبه الكسل . نعم لن نتمكن من الحوار الخلاق مع روايات غازي القصيبي وتركي الحمد ورجاء عالم وليلى الجهني وعبده خال وأميمة الخميس .. من دون ثقافة تتناسب مع ثقافة الكاتب وتنفرد بما يخصها . ولكي لا يظن أنني أوجه الخطاب من باب الوصاية على جيل الأمل هذا سأضرب مثلا بنفسي . لقد كتبت عن كامو وميشيل تورنييه وبورخيس وإبراهيم الكوني وصنع الله إبراهيم وعشرات غيرهم . لكنني كنت ولا أزال أتهيب الكتابة عن بعض النصوص والتجارب التي أدرك أنها تنطوي على رؤى جمالية وفكرية عميقة لم أشتغل عليها بعد كما ينبغي، ومنها تحديدا كتابات رجاء عالم التي أكاد أجزم أن جل ما كتب عنها إلى اليوم هو من قبيل تلك القراءات الجزئية القاصرة . [email protected]