في المتغيرات العربية الراهنة هنالك ثلاث تجارب، لعبت فيها «المعارضة» ككيان دوراً متقدماً في تغيير الانظمة وكانت مؤشراً لضعف عامل التغيير الداخلي، بينما لم تلعب دوراً مستقلاً في حالات ثلاث اخرى. في كل من العراق، اذا صح ادراجه في الربيع العربي الحالي، ثم في ليبيا وسورية، حضرت المعارضات كقوى وعناوين رئيسية في «التغيير»، بينما لم تكن هذه حالة تونس ومصر واليمن، في الصنف الثاني، حيث كانت هنالك معارضات، الا انها لم تتشكل في اطر، ولا تحولت الى مراكز تدعي قيادة التحرك الجماهيري، او تمثل ارادة التغيير. هذا بينما امتازت الحالات الثلاث الاولى بأنها كذلك، مع تلونات نجدها في انها لم تكن تستند الى اي تحرك جماهيري في الداخل (حالة العراق) بينما الحالتان الليبية والسورية قامتا في غمرة انتفاضات وتحركات جماهيرية شعبية داخل البلاد، غير قادرة على الحسم، الا انها ثلاثتها اتصفت بالحصول على دعم الولاياتالمتحدة وحلف الناتو. يدل هذا المظهر، اي العلاقة بمختلف التدرجات مع الغرب والتعويل على تدخليته، بوضوح، على ضعف الآليات والعوامل الداخلية الكافية لتحقيق التغيير، مما يحول «تغيير» الانظمة الى عملية قيصرية. والنتيجة مراكمة مهمات «ما بعد تغيير». وليس صحيحاً بناء عليه ان الديموقراطية هي ما نحصل عليه حتماً في كل الانتفاضات، وليست المعارضة دائماً على حق، على الاقل في ما تدعيه او تعد به. فالتغيير المدعوم بتدخلية الغرب العسكرية تحديداً، يعني عادة ان ازالة الحكومات والنظم ليست لها مقومات داخلية كافية، وان هذه العملية لم تنضج بعد سياسياً ومجتمعياً. فالنظامان العراقي والليبي مثلاً، لم «يسقطا» بالمعنى التاريخي، ولولا الناتو والولاياتالمتحدة، لما كان القذافي قد غاب عن المشهد، وكذلك صدام حسين. في مناسبات اخرى، كانت الاوضاع ناضجة لدرجة انها أدت بفعل الهبات الشعبية الى اسقاط انظمة. واللافت في الحالتين ان البلدان التي اسقطت فيها الانظمة، هي حصرياً البلدان غير النفطية. اذا اكملنا المتابعة، ستظهر امامنا كتلة دول الخليج العربي محصنة ضد الانتفاضات. على العكس، تلعب هذه، او بعضها، بالأخص دولة قطر، دوراً في تأجيجها في البلدان الاخرى. اليمن بلد غير نفطي، نصف خليجي ومحاط برعاية دول النفط، اما سورية ففي المنتصف، لكنها تتمتع بميزة اخرى. انها «بلد مواجهة»، والدرس الحالي يعلمنا ان لا نهمل وزن الموقف من الصراع العربي الاسرائيلي، او نمتنع عن اضافته كعامل له اثر، بالاخص في حالة سورية، البلد الذي تقوم فيه الدولة دائماً على عنصر المواجهة مع الخارج. ايام معاوية بعد الفتح العربي الاسلامي، لعبت المواجهة الطويلة مع الامبراطورية البيزنطية، دور عامل التوحيد فمنحت سورية اهمية لا تملكها بذاتها، بحيث غدت قادرة على منافسة الخلافة الراشدة. اليوم ادرك حافظ الاسد هذه الخاصية في بلد هو ممر امبراطوريات، و «دول مدن»، ولا يتمتع بمقومات نشوء دولة ولحمة وطنية. فالدولة الوطنية في اصلها قامت في الحضارات النهرية. ذهب حافظ الاسد نحو ارساء اسس دولة من اعلى، «ارضها» ولحمتها المواجهة مع اسرائيل، ونجح. في الفحص، لا نجد ان انتفاضات البلدان الفقيرة تنطوي على قوة دفع حاسمة مصدرها مطلب «الحرية» والديموقراطية فقط. والتحري عن العامل المتقدم والفاعل الرئيسي فيها، واي توسيع لدائرة الرؤية، يدلان على ان موضوع الحرية في العالم العربي لا يزال خارج جدول الاعمال فعلياً، على الاقل بالقياس للزخم الذي اتسمت به الانتفاضات العربية حتى الآن. لندع موجة التقييمات المبالغة والايديولوجية الانشائية جانباً، فهنالك فارق كبير بين صورة الانتفاضات المتداولة وفق انماط الوعي المتوافرة، والتي تجدد حضورها على وقع تلك الانتفاضات، وبين الحقيقة كما تُستخلص من المعطيات المعاشة. والمنطق يقول ببساطة ان مسألة «الحرية» كان بالامكان اعتبارها ملحة فعلاً، وهي الحاضرة اليوم، لو ان الانتفاضات جرت في بلدان الوفرة النفطية، لا في بلدان الفقر والاقتصادات المفوّتة، حيث البؤس الذي لا حدود لتفاقمه. تبدو الانتفاضات الحالية وكأنها كاشف عن اختلالات بنية الاقتصاد العربي، من زاوية العامل الريعي. فمنذ السبعينات حين انفجرت ازمة الطاقة، دخل على ما يمكن تسميته «الاقتصاد العربي» بقوة، عنصر الفيوض المالية الخليجية، ونشأ اختلال مريع بين نماذج بلدان الريع التي تقيم هرمية تراتبية من القبائل توزع عليها الاعطيات، وتستخدم وفرة المال لإزالة اسباب التوتر، وبين اقتصادات اخرى كانت زراعية، ووجدت نفسها مختلة، وفشلت في الانتقال الى الصناعة لاسباب بنيوية، وهي تفتقر للموارد اللازمة لاقامة نظم عطاء ريعي. ومع متغيرات الاقتصاد العالمية، ضاعت الخيارات، وعجز الوعي عن ابتكار سبيل تؤمن التوازن، او تضمن الحد الادنى من الفعالية المتناسقة. هذه البلدان عاشت في ظل اقصادات ونظم «عشوائية» بلا عائد ولا افق، اختلط فيها التدبير البدائي العفوي للمجتمع، بالتدخل الاكبر الآني والارتجالي للدول مصحوباً ببنية سلطة بوليسية. تحكي الارقام حقائق مريعة عن سوء حالة هذه البلدان، وبؤس حياة الناس وواقع الدولة وادائها الفاسد المستبد. وهي بلا شك خلقت آليات ومحركات تفجّر مصيرها في الانتفاضات الحالية. لكن كما ظل عالم الرؤية الاقتصادية والسياسية في المنطقة يعاني وطأة الفقر الفكري، وانعدام الابتكار، واستسهال تسمية الاشياء وفق ما هو شائع او متداول من مصطلحات لا تمت بصلة لما هو قائم، لا تزال مآلات هذا النوع من الاقتصادات والنظم، (والثورة عليها كما هو حاصل الآن)، تفضي نحو وجهات لا تمس المجريات الفعلية، ما ينسحب على المستقبل المنتظر. فموضوع الاختلال في «الاقتصاد العرب»، واحتمالات او مؤشرات طغيان النموذج الريعي عربياً، يلتقي حالياً مع ما وصلت اليه الانتفاضات من نتائج تمخضت عنها الانتخابات. والسؤال الكبير الذي ينتظر الجواب هو: هل نحن على مشارف انتصار الديموقراطية الحقة التي لا آليات في الواقع تبررها، ام على الطريق نحو تعميم نموذج الريعية النفطية؟ * كاتب عراقي