من يقرأ نصّ الكاتب عصام محفوظ «الديكتاتور» (1969) ويشاهد الصيغة المسرحية التي ارتأتها المخرجة لينا أبيض والممثلتان جوليا قصّار وعايدة صبرا، يكتشف كم ان المغامرة الجريئة التي خاضتها الفنانات الثلاث مشوبة بالمخاطرة السافرة، ف «الديكتاتور» الذي رسمه عصام محفوظ في نصه وشاءه رمزاً «ذكورياً» لشخصية الديكتاتور التي راجت في مرحلة السبعينات، سواء في أميركا اللاتينية أم في العالم العربي، استحال في المسرحية قناعاً ترتديه امرأة وتؤدي من خلفه هذه الشخصية «الذكورية» المعقّدة. ومثله أيضاً استحال خادمه سعدون قناعاً آخر تختفي وراءه امرأة. ولعلّ هذه اللعبة «المقلوبة» أكدت الغنى الدرامي لنص عصام محفوظ وقدرته على التكيف مع المقاربات الإخراجية المتعددة حتى التناقض. وهذا بالطبع ما أكدته الصيغة «النسائية» المسرحية لهذا النص، التي أكدت أن العنف الذكوري يمكن أن يكون نسائياً، وأن العنف الظاهر أو الخارجي يمكن أن يكون داخلياً ونفسياً أو باطنياً. المسألة هنا، كما طرحتها الفنانات الثلاث، لا تقتصر على استبدال شخصية الرجل بشخصية امرأة، كما يحصل دوماً في المسرح العالمي -والعربي احياناً-، بل هي مسألة الحفر في صميم النص أولاً، ثم في قلب شخصية «الديكتاتور» كنموذج بشري ودرامي، ثم في تحرير «العنف» والوهم والعبث من شرط الجنس أو النوع البشري. وقد نجحت الفنانات الثلاث في معاودة قراءتهن للنص كما للشخصيتين والأبعاد التي تحملانها. ولم تكن اللعبة (لعبة الاستقلاب) هنا لعبة شكلية أو لعبة أقنعة فقط، بل كانت لعبة وجودية مفتوحة على مفهوم الهوية المزدوجة التي يحملها الكائن في ذاته، والتي عمد الإخراج والتمثيل هنا الى إيقاظها. لا ينفصل الإخراج في المسرحية هذه عن التمثيل، إنهما يكملان بعضهما بعضاً، وكأن المغامرة مشتركة والرهان مشترك. الإخراج يندمج في التمثيل حتى ليبدو الاثنان نسيجاً واحداً لرؤية واحدة وهمّ واحد. الإخراج مرآة للتمثيل والتمثيل مرآة للإخراج، مثلما الديكتاتور مرآة ل «تابعه» سعدون، وسعدون «التابع» مرآة للديكتاتور. المسرح الفقير مسرح فقير، خال من أي ديكور، ما عدا المرآتان اللتان احتلتا جانبي الخشبة والمربعات البيضاء التي كانت بمثابة أداة مسرحية (سرير أو كنبة على سبيل المثل...)، لكن هذا المسرح الفقير (بحسب مقولة غروتوفسكي) لم يكن البتة فقيراً، بل إن خلوّه من التفاصيل جعله حيّزاً مفتوحاً لحركة الممثلتين ومخيلتهما المندمجة في مخيلة المخرجة التي نجحت في هندسة هذا الفراغ، وشحنه بالعلامات والرموز. الديكتاتور (أو «الديكتاتورة») شخص كأنه لا ذكر ولا أنثى، ذو جزمة واحدة جعلته (أو جعلتها) أعرج (أو عرجاء)، وهنا لقطة بديعة هي بمثابة اللقيا غير المنتظرة. أما التابع، فهو بدوره شخص حيادي جنسياً، ذكر وأنثى، أي لا ذكر ولا أنثى، خادم مطيع، لا يتوانى عن السخرية من جنراله (أو سيّده) وعن التواطؤ الوهمي معه حتى إنه لا يتمالك عن أن يصبح «الملك» الخصم اللدود للجنرال، وأن يتلقى الطعنة في الختام ويسقط مجسّداً سقوط الملك المتوهّم... إنهما صورتان مهزوزتان (فلو) عن الثنائي التاريخي «السيّد-العبد» (دون كيشوت وسانشوبانشا، السيد بانتولا وتابعه ماتي، الخادمتان المنفصمتان بين سيدة وخادمة)... لكن اللعبة هنا أشد عبثية ومأسوية، فالديكتاتور وسعدون مسجونان (كما يعلم المشاهد لاحقاً) في غرفة مغلقة الباب، والهاتف الذي يبدو وسيلتهما الوحيدة للتواصل مع الخارج (الثورة المتوهمة) هو هاتف مقطوع، والطرقات على الباب متوهمة أيضاً، وليست أفعالهما إلا أفعالاً وهمية، يُقنعان نفسيهما بها وكأنهما يعانيان حالاً من البارانويا العميقة. وقد أضافت لعبة المخرجة والممثلتين على حال البارانويا هذه ملامح من «السكيزوفرانيا» والانفصام، ما ساهم في إضفاء طابع المصحّ على السجن المقفل. وهنا نجحت الفنانات الثلاث في منح النص واللعبة بُعداً إضافياً، فإذا الشخصان مصابان ب «مرضين» زادا من حالي الانحراف والاستلاب اللذين يعيشانهما. لكن الثلاث نجحن كثيراً في خلق لحظة مسرحية، سريعة وعابرة، يمكن تسميتها ب «اللحظة البريختية»، وخلالها يُسقطان «القناع» فتتحدث الممثلتان بصيغة المؤنث، معبّرتين عن التعب الذي حل بهما. هذه اللحظة التي مرت بسرعة كانت حاسمة في بعدها «التغريبي» المختصر، والذي ذكّر الجمهور بأن اللعبة لعبة قناع أو «برسونا» في مفهوم انغمار برغمان. غير أن الممثلتين القديرتين جوليا قصّار وعايدة صبرا، عاشتا الشخصيتين في عمقهما، بوعي ولاوعي، بحوارهما المعلن وحوارهما الباطن، بالحركة الهاذية كما بالفتنة التعبيرية. عاشت الممثلتان هاتين الشخصيتين اللتين على حافة الانهيار، في حال من التجاذب والتناغم العنيف، المتواصل والمتقطع، ومنحتاهما الكثير من الطبائع والحركات غير المنتظرة والطالعة من عالمهما الداخلي المكبوت. ولا غرابة في أن يقارب أداؤهما أنواعاً عدة من فن التمثيل، البورلسك والغروتسك المضبوط وعيش اللحظة بقوتها والتغريب السريع والتهريج والسخرية والمأسوية... ممثلتان قادرتان على «عجن» الأنماط والأساليب الأدائية في نسيج متماسك وإيقاع متعدد اللحظات، يتوتر وينفلش ثم ينقبض ثم يتداعى. تؤديان الشخصيتين وقناعيهما في آن، وتلتحمان بهما حتى لا يمكن الفصل بين الشخصية وقناعها، وقد وظفتا حركية الجسد والوجه تمام التوظيف. هذيان وسادية الديكتاتورة (جوليا) هي الديكتاتور الذي لم يجد بعدَ هزيمته (المفترضة) ووقوعه في الهذيان سوى خادمه سعدون (عايدة) كي يمارس عبره ساديته التي أضحت على آخر رمق. «إنها» جنرال الأوهام، الذي يقود الثورة المندلعة في الخارج وهو منزوٍ في ما يشبه الزنزانة التي أضحت مصحاً، والذي يُصدر قراراته المتوهمة والواهية عبر هاتف مقطوع الخط، آمراً باعتقال النواب ومصادرة الأفكار السياسية وتأميم النساء وفرض لون واحد على ملابس المواطنين وإلغاء العملة وإقفال الصحف وتصفية مجلس الثورة وإعدام القادة الثوريين الذين يحملون أسماء متشابهة وكأنها تنويع على اسم واحد هو غير موجود أصلاً... وفي الختام يُصدر أمراً باعتقال الشعب كله ترسيخاً للثورة. إنه الديكتاتور المعصوم عن الخطأ، الديكتاتور الذي يعلن أنه الأفهم بين البشر، جزمته مرآة ولو لخادمه الأخير... أما هذا الخادم، فهو الظل الآخر له، الظل المنفصم عنه، يحبه ويكرهه، يطيعه وكأنه يعصيه، يلمّع حذاءه ويتمنى له الموت. وفي ختام هذه اللعبة التي عرفت المخرجة والممثلتان كيف تصعّدانها شيئاً فشيئاً من خلال الأداء المتوتر، والمتنامي في توتره، تبلغ العلاقة المحمومة ذروتها بحيث يتوهم الجنرال أن تابعه سعدون هو الملك، كما يتوهم ايضاً سعدون نفسه أنه الملك، فيشتد الصراع بينهما وينتقم كلّ لنفسه، وإن وهماً. لكن القتل سيكون الحل الملائم لهذا الجنون الهاذي، إنه الصراع بين الديكتاتور ونفسه في المرآة التي مثلها سعدون، والتي رأى فيها الجنرال صورة له طالما كرهها وكبت كرهه لها، لكن المشهد الاخير أوحى بما يشبه منحوتة «لا بييتا» ما منح العرض بعداً تراجيدياً آخر. لم تخرج لينا أبيض كمخرجة عن نص عصام محفوظ، بل هي في معاودة قراءتها الدرامية والمشهدية له، أثبتت كم انه نص غنيّ وفريد، وقادر على إمداد المخرج بالكثير من الأفكار والأشكال والاخيلة والحلول التجريبية. أثبتت المخرجة والممثلتان البارعتان ان مثل هذه الخيانة الأمينة للنص تدل على حداثته المستمرة وعلى قدرته الدائمة على مخاطبة المراحل والأجيال وعلى قابليته الهائلة في الانفتاح على أنواع شتى من التجريب والاختبار... ففي هذه الصيغة «الفقيرة» التي تحوّلت فيها السينوغرافيا (كما الديكور) الى سينوغرافيا متوهّمة ولكن حاضرة بشدّة، حضوراً دلالياً هو أشد تعبيرية من الحضور الواقعي. وما أجمل فكرة الحبل المتوهّم، حبل المشنقة، الذي كان أداة درامية مبتكرة، وقد تجاذبته الشخصيتان وكأنهما الجلاد والضحية اللذان سينتهيان بالتساوي، في موتيهما، الحقيقي (سعدون) والمجازي (الديكتاتور). إنها أجمل تحية توجّه الى المسرحي والشاعر عصام محفوظ، رائد الكتابة المسرحية في لبنان، في الذكرى السادسة لرحيله.